الأمانة: فضائلها ومجالاتها

عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ حقيقة الأمانة ومنزلتها وشأنها 2/ فضائل أدائها 3/ صورها ومجالاتها
عنوان فرعي أول
شمولية الأمانة
عنوان فرعي ثاني
مجالات الأمانة
عنوان فرعي ثالث
الأولاد أمانة

اقتباس

ومن مجالات الأمانة -أخي المسلم- المحافظة على القيم والأخلاق التي دعا الإسلام إليها، فإن محمدا -صلى الله عليه وسلم- بعث ليتمم مكارم الأخلاق؛ فالمحافظة على أخلاق الإسلام وقيمه وفضائله من الأمانات المؤتمن عليها المسلمون؛ لينشروا دين الله، ويبينوا ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له.

 

وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين.        

 

أمَّا بعد: فيا أيُّها النَّاس، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.

 

يقول الله -جل جلاله-: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب:72].

 

أخي المسلم: عرض الله الأمانة التي هي طاعته وفرائضه وحدوده على أعظم مخلوقاته، (السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا)، لا عصيانا لربها؛ ولكن إشفاقاً من العجز عن القيام بها، (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

 

الأمانة مسؤولية عظيمة، وحمل ثقيل إلا مَن قدّره الله على ذلك، وحقيقتها: أداء حق الله بعبادته، وإخلاص الدين له، والقيام بحقوق الخلق من غير تقصير.

 

ولها أمر عظيم، ولها شأن في حياة المسلم كبير؛ لاشتمالها على جوانب ما ينفع الفرد والمجتمع من إخلاص لله على موافقة كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

 

أيها المسلم: إنَّ لأداء الأمانة فضائلَ عظيمةً، دل عليها كتاب الله وسنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال -جل وعلا- في بيان وصف المؤمنين المفلحين: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:8 / المعارج:32]، فأثنى عليهم بأنهم مراعون للأمانات والعهود، غير خائنين في أماناتهم وعهودهم.

 

يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ"، ويقول أيضا: "لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ".

 

ومن فضائل الأمانة أنها صفة لأنبياء الله، فلقد ذكر الله خمسةً من رسله، كل رسول موصوف بالأمانة، قال -تعالى-: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)، وقال: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)، وقال: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)، (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)، (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) [سورة الشعراء].

 

هذه الأمانة فطرة موجودة في قلوب الرجال، فجاء الكتاب والسنة لتقوية هذه الأمانة في قلوب العباد.

 

ومن فضائل الأمانة أنها صفة لمن يتحمل المسؤولية، تقول بنت شعيب لشعيب في حق موسى -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) [القصص:26].

 

ومن فضائلها أنها وصف للمؤمن، والتخلف عنها علامة النفاق؛ لعظيم شأنها، وفي الحديث في صفة المنافق: "وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ".

 

ومنها: أن تضييعها علامة قرب الساعة، سأل رجل النبي -صلى الله عليه وسلم-: متى الساعة؟ قال: "إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ"، قَالَ: كَيْفَ تضيّع الأمانة؟ قَالَ: "إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ".

 

أيها المسلم: وهذه الأمانة لها صور عديدة، ومجالات واسعة، فهي تشمل أصول الدين؛ عقيدة وشريعة، وهي تشمل المعاملات والعلاقات الفردية والجماعية بين المسلمين، فهي منتظمة لكل حياة المسلم؛ إذ المسلم يعيش بالأمانة في كل أحواله.

 

فمن مجالات الأمانة أن هذا الدين الإسلامي أمانة في أعناق الجميع، الدين أمانة في عنق المسلم بالإيمان بالله، وإخلاص الدين لله، وصرف جميع أنواع العبادة لله -جل وعلا-، والإخلاص في ذلك، فهو أمانة في أعناق الجميع، من حيث الدعوة إلى الله، وتبصير العباد، والأخذ على أيدي السفهاء والمفسدين، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].

 

أخي المسلم: وإن العبادات العملية من صلاة وزكاة وصوم وحج أمانة في عنقك، تؤديها بصدق وإخلاص واتباع لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110]. فالإخلاص والمتابعة شرطان لقبول الأعمال.

 

ومن مجالاتها: أن عمرك أمانة عندك، وعاء تملؤه بالخير والتقى إذا وفقت لذلك، وسوف تسأل عن هذا العمر؛ فساعاتك معدودة، وأنفاسك محدودة، وعمرك أيام وشهور وسنون، ثم تلقى الله -جل وعلا-، تسأل عن عمرك فيما أفنيته، يقول الله -جل وعلا-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران:30].

 

وفي الحديث: "لا تزال قَدمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرُهِ: فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ: فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ: مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ: مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟".

 

ومن مجالات الأمانة -أخي المسلم- المحافظة على القيم والأخلاق التي دعا الإسلام إليها، فإن محمدا -صلى الله عليه وسلم- بعث ليتمم مكارم الأخلاق؛ فالمحافظة على أخلاق الإسلام وقيمه وفضائله من الأمانات المؤتمن عليها المسلمون؛ لينشروا دين الله، ويبينوا فضائل هذا الدين وخصائصه ومميزاته وما فيه من الخير والفضل والبركة.

 

أيها المسلم: ومن مجالات الأمانة العقود والعهود؛ بأن تؤدي العقود كاملة من غير تقصير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1]، وفي الحديث: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا".

 

ومن مجالات الأمانة صيانة العرض، سواء عرضك في نفسك، وأهل بيتك، وعرض الآخرين؛ فصن عرضك عما حرم الله عليك، وصن أعراض المسلمين من القدح فيها، وفي الحديث: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".

 

ومن مجالات الأمانة -أيضا- المال الذي بيدك، فإنه أمانة عندك أنت مسؤول عن هذا المال: من أين اكتسبت هذا المال؟  أكان طرق الاكتساب طرقا صحيحة مؤذنةً لك شرعا؟ أم كان اكتساب المال من حرام؟ في الحديث: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِى الْمَرْءُ من أين اكتسب أَمِنَ حَلاَلِ أَمْ مِنَ حَرَامِ".

 

فأنت مسؤول عن هذا المال، عن طرق وصوله إليك، ثم عن طرق إنفاقه، وهل أديت الواجب لله؟ هل أديت الزكاة الواجبة المفروضة، أم تهاونت وتكاسلت بذلك؟.

 

أيها المسلم: الزوجة أمانة عند زوجها من حيث رعايته لها ونصيحتها وتوجيهها والتعامل معها بالمعروف والقيام بما أوجب الله من النفقة والكسوة وحسن المعاشرة؛ كما أنها مسؤولة مؤتمنه على أولادها وعلى بيت زوجها وعلى ماله، وعلى فراشه.

 

أيها المسلم: أولادنا أمانة في أعناقنا يجب أن نوجههم ونربيهم التربية الصالحة على قدر استطاعتنا، ونكون قدوةً لهم في الخير والتقى والتمسك بالآداب والقيم، يقول الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6].

 

الفتيات والبنات أمانة في أعناق الآباء إذا تقدم ذو الكفاءة والدين والمروءة والأخلاق، على الأب ألا يقف حجر عثرة أمام زواجها لبعض الترهات التي لا قيمة لها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وأمانته فَزَوِّجُوهُ؛ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كبير".

 

الأبوان -الأم والأب- أمانة في أعناق الأبناء والبنات، لا سيما عند كبر سنهما، ورقة عظمهما، وضعف قوتهما، وقلة حيلتهما: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء:23-24].

 

فهم أمانة عندك عند كبر السن وقلة الحيلة وضعف القوة والجاه، أن ترعاهما حق الرعاية، وأن تلطف بهما، أن تحسن إليهما، وأن تتذكر فضائلهما وجميلهما؛ وما وُصي بهما إلا لتكون بارا بهما إن كنت من ذوي الدين والمروءة.

 

أيها المسلم: إن أبناءنا وبناتِنا أمانة في أعناق المعلمين والمعلمات ليؤدوا واجبهم نحو هذا الجيل، فيربى الشباب والناشئة تربية صالحة إسلامية، ويكونوا قدوة خيّرة من معلم ذي خلق؛ بلسان طيب وقول طيب ومظهر إسلامي طيب، ومعلمة ذات خلق ودين وسمتٍ حسن وعفة وحشمة وكرامة.

 

أيها المسلم: ومما يؤتمن المسلم عليه: الوصية، فالوصية أمانة في عنق الموصى بها؛ فليتق الله فيها أن لا تكون وصية جائرة فيها ظلم وعدوان وحرمان لبعض الورثة، وانتقاص لحق بعضهم، فإن الله -جل وعلا- يقول: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة:182].

 

والوصية الجائرة أن يوصي لبعض الورثة بشيء زائد عن الآخرين، أو يقر لبعضهم بشيء ليس حقيقة، قال الله -جل وعلا-: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [النساء:12]، فاحذر الوصية الجائرة الظالمة، ولتكن وصيتك وصية عادلة موافقة للشرع.

 

أيها المسلم: الشهادةُ أمانةٌ عند الشاهد؛ يؤديها بصدق وأمانة فلا يكتمها ولا يبخس شيئا منها، بل يؤديها كاملة كما تحمّلها كاملة.. قال -جل وعلا-: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة:283]، يؤديها بصدق؛ غنيا كان أم فقيرا: (إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) [النساء:135]، لا تزور الشهادة، ولا تكتمها، أدها بصدق وأمانة؛ طاعة لله، دون أي مجاملة.

 

أيها المسلم: كل صاحب مهنة هو ملازم لمهنته التي يؤديها، فإن أداها بصدق وأمانة كان مؤمنا، وإن غش ودلس لم يكن كذلك: "فمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا".

 

الموظف في وظيفته مؤتمن على عمله أن يؤديه وقتاً وأداء، ويؤدي المعاملات كاملة لا يقدم أحدا على أحد لأجل جاهٍ أو قرابة أو لأجل رشوة يأخذها؛ بل يؤدي عمله طاعةً لله، وتقربا إلى الله، وإبراء للذمة، وقياما بالواجب.

 

أيها المسلم: المجتمع المسلم أمانة في أعناق الأمة، لاسيما العلماء والخطباء والمربون والمسؤولون جميعا، المجتمع المسلم بأمسّ الحاجة إلى التكاتف والتعاون لحماية المجتمع وتقوية بنائه ورص الصفوف، والبعد عن كل ما يصدّع بنيانه أو يهدد كيانه أو يضعف شأنه، فإن هذا أمانة في أعناق الجميع.

 

الخطيب يبين، والمربي يبين، والمسؤول يبين، وكلٌّ مسؤول عن هذا المجتمع المسلم أن يبقى آمناً مترابطاً قوياً ثابتاً متماسكا لا تمتد إليه أيادي الطامعين والحاسدين والمفسدين؛ بل هو سد منيع أمام كل مفسد وكل منحرف، لا سيما الذين يغرون النساء والسفهاء بما يغرونهم به من فوضى لا داعي لها وأمور تخالف الشرع.

 

يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فكان بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِين فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا صعدوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا"، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا ونجوا جَمِيعًا، وإِنْ تَرَكُوهُمْ غرقوا جَمِيعًا".

 

هكذا المجتمع المسلم، يجب أن نتكاتف ونتعاون لإبقاء هذا المجتمع كيانا قويا متماسكا مترابطا ثابتا بعيدا عن كل المؤثرات، نأخذ عبرة بمن حولنا، ولنكن مجتمعا مسلما...

 

أيها المسلم: ومن مجالات الأمانة الجار، فالجارُ أمانة عندك؛ أن تحسن إليه، وتكف الأذى عنه، وتبذل له المعروف؛ في الحديث: "لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ" أي: غدراته وخياناته.

 

ومن الأمانة المجالس العامة، كما في الحديث: "الْمَجَالِس أَمَانَةٌ، إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بحَدِيث والْتَفَتَ فَإنها أَمَانَةٌ" إذا؛ فالمجالس أمانة، إلا مجالس يستحل فيها فروج محرمة أو تسفك الدماء أو الأموال فهذه لا بد من إيضاحها وبيانها.

 

أيها المسلم: ما بين الزوجين من علاقات زوجية سر يجب أن يحفظ... ففي الحديث: "تَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ الرَّجُلَ يُفضي إلى امرأته، والمرأة تُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا"، وهذه رذيلة وقلة حياء.

 

ومن مجالات الأمانة نفسك -أيها المسلم- نفسك أمانة عندك، فاتقِ الله فيها، وقد حرم قتلها: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [النساء:29]، فحرام عليك نفسك، يجب أن تحليها بالفضائل والأخلاق، وأن تنقذها من عذاب الله.

 

وفي الحديث: "كُلُّكم يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا"، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:9-10].

 

جوارحنا أمانة في أعناقنا؛ السمع والبصر: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولاً) [الإسراء:26]، فسمعنا نحن مسؤولون عنه، أن لا نصغي لحرام، وأن نسخره للاستماع لما ينفعنا.

 

بصرنا، أن لا ننظر إلى ما حرم الله علينا: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) [النور:30]، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:31].

 

فرجك أمانة عندك، سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: "تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ"، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ: "الأجوفان: الْفَرْجُ والْفَمُ".

 

والله يقول: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [المؤمنون:5-6، المعارج:29-30].

 

أيها المسلم: فمن مجالات الأمانة -أيضا- الإعلام؛ فرجل الإعلام مؤتمن في وسيلته التي يلقي فيها، وعلى كلماته، وعلى أطروحاته وبرامجه وما يعد، إن كان صادقا مؤتمنا قال خيرا ودعا إلى خير، فكلمته أمانة في عنقه، ألا يخط بقلمه إلا ما هو خير وصلاح للإسلام والمسلمين، والله سائله عما يقول: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18].

 

العلماءُ، العلم أمانة عندهم، في نشر العلم وبيان الحق حتى يسلموا من كتمان العلم، فإن الله ذم الكافرين: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ) [البقرة:159].

 

المحامون مؤتمنون في مهنتهم، فعليهم أن يكونوا صادقين ويتقوا الله ويؤدوا حقوق الأمناء، ولا يكون مهمتهم كسب القضية على أي حال كانت.

 

وطن الإسلام أمانة في أعناق الجميع حمايته والدفاع عنه وعدم التستر على المجرمين والتغاضي عن المفسدين، وأن نكون سدا منيعا أمام كل من يريد إفساد بلادنا أو إضعاف شأننا، أو الإخلال بأمننا؛ فإن وطن الإسلام الأمة مسؤولة عنه؛ حمايةً له؛ ففي الحديث: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا"، أي: من تستر عليه أو أعانه على شره وفساده.

 

المخططون للأمة في اقتصادها وفي سياساتها وفي إعلامها وفي تعليمها وفي مجتمعها وصناع القرار، الله سيسألهم يوم القيامة عما يخططون وينظمون وما يقررون؛ فليتق الواحد منهم الله ربه، وليعلم أن الله سائله عن كل ما قرر وكل ما خطط، فليتق المسلمُ ربَّه في هذه الأمة في التخطيط لمستقبلها؛ سياسيا وأمنيا واقتصاديا وتعليميا واجتماعيا؛ لتكون كل القرارات مبنية على أسس من الحق والثبات، وقصد الحق، وتحري الصواب.

 

أسأل الله أن يوفقنا وإياكم ويعيننا وإياكم على أداء ما اؤتمنّا عليه؛ إنه على كل شيء قدير.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني إيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ. 

 

أما بعدُ: فيا أيُّها النَّاس، اتَّقوا اللهَ -تعالى- حقَّ التقوى.

 

عباد الله: إذا علمنا أن الدين كله أمانة في أصوله وفروعه وأحكامه كلها فعلينا أن نحافظ على هذه الأمانة وأن نؤديها حقا.

 

أيها المسلم: لا تنظر لهذا الدين من زاوية ضيقة أو زاوية معينة، لا، هذا الدين ليس خاصا بالصلوات والعبادات؛ بل هو دين يشمل جميع شؤون الحياة، ينظمها قليلها وكثيرها، فإنا خلقنا لعبادة الله والقيام بما أوجبه علينا.

 

فالأمانة شاملة لعباداتنا ومعاملاتنا وعلاقاتنا الداخلية والخارجية وشؤون حياتنا؛ اقتصادا وأمناً وتعليما وتخطيطاً وتنظيما لشؤون المجتمع، هذه كلها أمانة في أعناق الجميع؛ فليتقِ العبد ربه فيما يأتي ويذر.

 

وأسأل الله أن يوفق كل مسؤول في القيام بما عهد إليه من مسؤولية؛ إنه على كل شيء قدير.

 

واعلموا -رحمكم الله- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.

 

وصَلُّوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

 

اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد..

 

 

 

 

المرفقات

فضائلها ومجالاتها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات