اقتباس
والمهتمون بعلم الرياضيات يقررون أن: "أقرب طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم"، فكل ميل أو اعوجاج أو روغان أو انحراف عن الخط المستقيم، أو "الصراط المستقيم" بتعبير القرآن، يباعد بين المرء وغايته، وغاية المسلم الجنة؛ لذا فقد روى الزهري أن عمر بن الخطاب تلا هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: استقاموا والله لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب...
لو يعلم المنحرف عما ينحرف، لما انحرف! ولو يدرك المنتكس عما انتكس، لما انتكس؛ فإنه إنما ينحرف وينتكس عن طريق الجنة إلى طريق النار! لو يعلم أنه بانحرافه إنما يميل ويبتعد عن طريق الجنة لتردد ألف مرة قبل أن يميل أو يزيغ! وكم للانحراف من طرق وسبل وموصِّلات؛ قال الله -عز وجل- في قرآنه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الأنعام: 153]، وقد فسَّر النبي -صلى الله عليه وسلـم- هذه الآية بالمثال وبالكلام، فعن عبد الله، قال: خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطًا، وخط عن يمين الخط وعن شماله خططًا ثم قال: "هذا صراط الله مستقيما، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)[الأنعام: 153] (النسائي في الكبرى).
نعم، للجنة طريق واحد، وللحق سبيل واحد، واحد لا يتعدد، لكن للباطل ألف طريق وطريق ومليون سبيل وسبيل، وقد استدل العلماء على ذلك بقول الله -سبحانه وتعالى-: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)[البقرة: 257]؛ حيث جمع "الظلمات" وأفرد "النور"، وقد تكرر ذلك في القرآن أكثر من عشر مرات. والمهتمون بعلم الرياضيات يقررون أن: "أقرب طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم"، فكل ميل أو اعوجاج أو روغان أو انحراف عن الخط المستقيم -أو "الصراط المستقيم" بتعبير القرآن- يباعد بين المرء وغايته، وغاية المسلم الجنة، لذا فقد روى الزهري أن عمر بن الخطاب تلا هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)[فصلت: 30] قال: "استقاموا والله لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب"(الزهد والرقائق لابن المبارك). فيا أيها المنحرف: إنما تنأى بنفسك عن الجنة، عن سعادة الدنيا والآخرة، عن طمأنينة القلب وراحة البال... فحذار أن تميل أو تغفل أو تتوانى، بل قل: آمنت بالله، ثم استقم.
ولا نشك أن للانحراف وللانتكاس أسبابًا -كما أن لكل شيء أسبابًا-، ومن تلك الأسباب: أولًا: ذنوب الخلوات أصل الانتكاسات: إن المرء إذا استقام سره وعلانيته على طاعة الله أفلح وأنجح وكان التثبيت من الله له، أما إذا خالف سرُه علانيته؛ فأطاع الله في العلن وعصاه إذا ما خلا، فذاك سبب خطير من أسباب الانحراف والانتكاس، بل إن العصيان في الخلوات في حد ذاته نوع من أنواع الانحراف ودرجة من درجات الانتكاس، وقد أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- عم كم الحسرة والندامة التي يلقاها من فعل هذا يوم القيامة؛ فعن ثوبان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله -عز وجل- هباء منثورًا"، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا أن لا نكون منهم، ونحن لا نعلم، قال: "أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها"(ابن ماجه).
وصغائر الذنوب والتي يحتقرها الإنسان ويستصغرها لا تقل خطورة عن ذنوب الخلوات، فإنها تتكاثر وتتعاون على صاحبها حتى تجندله في نار جهنم -والعياذ بالله-، فعن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه"، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب لهن مثلًا: كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق، فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا، فأججوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها. (أحمد)
ثانيًا: دخيلة وشائبة في نية الإنسان: من رياء وحب شهرة وظهور وحب ثناء ومدح وعجب وغرور وكبر... وتكون عاقبة هذا الخلل وخيمة خطيرة؛ فإنه سبب من أسباب سوء الخاتمة -نعوذ بالله-؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة"(مسلم)، فهو يعمل بعملهم لكنه ليس في الحقيقة منهم، ويزيد هذا المعنى وضوحًا ما جاء في صحيح البخاري: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة"(البخاري)، فظاهر عمله أمام أعين الناس أنه خير وبر؛ يبني مشفى أو يؤسس دارًا للأيتام أو يشيد مسجدًا... لكنه في نيته وقصده يصنع هذا ليقال عنه: "سخي ومحسن وجواد..."، أو يصنعه تحضيرًا "للانتخابات" القادمة... وما لم يكن لله فلا بد أن ينقطع.
ثالثًا: غلبة الفتن والشهوات على قلبه، والاستجابة لها: فمن المعلوم أن الذنوب تُعرض على القلوب، فإذا ركن إليها قلب وتمناها كان ذلك سببًا في زيغه وانتكاسه وانحرافه... هذا ما قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-؛ فعن حذيفة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه"(مسلم)، وفي القرآن: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14].
رابعًا: صديق السوء: وهو من أخطر أسباب الانحراف، فكم من شاب كان تقيًا صالحًا، فغار زميله الشقي من صلاحه واستقامته، فما زال يغويه ويغريه ويسول له الخنا عن انحراف ومال وزاغ! وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- حين قال: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"(الحاكم)، فالصاحب متأثر لا محالة بسلوك صاحبه وأخلاقه وطباعه؛ فعن أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة"(متفق عليه).
ثم أسباب الانحراف بعد ذلك كثيرة لا تكاد تنحصر، فمنها: إهمال الأبوين، ومنها: البيئة الطالحة، ومنها: وسائل الإعلام الفاسدة، ومنها: عدم تعاهد الإيمان وتجديده والعمل على زيادته...
ولأن الانحراف عامة، وانحراف الشباب خاصة، قد أصبح ظاهرة مؤلمة تنذر بالخطر، فقد عقدنا هذا الملف العلمي لبيان جوانب هذا الداء وخطورة تلك الآفة، فكان المحور الأول منه لتقرير مفهوم الانحراف وصوره ومجالاته، أما المحور الثاني فكان تنبيهًا وتحذيرًا من عواقب الانحراف ومآلاته، وطرحنا في المحور الثالث سبل الوقاية والمواجهة والعلاج، وكان المحور الرابع تأصيليًا؛ فقد جمعنا في المراجع التي توثق وتؤصل لما عرضنا في الملف كله. والله من وراء القصد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم