د. سمير مثنى علي الأبارة
إن الإسلام كما يحرص على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فإنه يحرص كذلك على تحصين أبنائه من الزيغ والانحراف، والحفاظ عليهم من الاعتداءات الحسية والمعنوية، وللقرآن منهجه المتميز في هذا المجال، وأذكر حلولاً خاصه لجميع فئات المجتمع وحلول خاصة بأهل العلم والفكر والقيادة:
أولا: حلول عامة لجميع فئات المجتمع:
الحلول المذكورة في ثنايا هذه السطور تعم جميع شرائح المجتمع، المثقف وغير المثقف، والعالم والأمي، وهي على النحو التالي:
1- التعلُّق باللَّه - عزَّ وجل - والاستعانة والاستعاذة به، وسؤاله الهداية والثبات والممات على دين الإسلام من غير تبديل ولا تغيير، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة، فقد كان يسأل ربَّه الهداية، وكان كثيراً ما يسأله الثبات على هذا الدين، وعدم تقلُّب قلبه عن منهج الإسلام، ويستعيذ به من أن يضلَّ أو يُضلَّ، كما كان - عليه السلام - يستعيذ من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فالدعاء الملازم لذلك والانطراح على عتبة العبوديَّة، وملازمة القرع لأبواب السماء بـ: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8] [1] إذا اجتمعت هذه كلَّها، فلاشكَّ أنَّ رحمته سبحانه سابقة لغضبه وعقابه، ومحال أن يتعلق العبد بربِّه حقَّ التعلُّق، ويعرض عنه الله - سبحانه وبحمده - وهو الكريم الوهاب.
2- الثِّقة واليقين بالله ووعده وحكمه وأوامره، والشعور بالمسؤوليَّة عن حفظ الدين من شبهات المغرضين، وعدم خلطه بالباطل، أو لبسه إياه، ومن ثمَّ الصبر على مكائد المنفِّذين والمسوِّغين للشُّبهات، فإنَّه سبحانه وتعالى يقول: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120] [2] وقد قال الإمام ابن تيميَّة رحمه الله: (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين)[3] وممَّا يشهد لذلك قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24] [4] أي: علماء بالشرع، وطرق الهداية، مهتدين في أنفسهم، يهدون غيرهم بذلك الهدى، فالكتاب الذي أنزل إليهم، هدى، والمؤمنون به منهم، على قسمين: أئمة يهدون بأمر الله، وأتباع مهتدون بهم[5].
3- الثِّقة واليقين بالله ووعده وحكمه وأوامره وإرجاع المسائل المشكلة إليهم ليحلُّوها ويوضِّحوا ما أبهم على صاحبها، فلا يستعجل في قبول فكرةٍ أطلقها من لا يؤمن فكره، ولا يبقي تلك الشُّبهة في صدره حتَّى تعظم، بل ينبغي عليه أن يضبط نفسه بالرجوع للراسخين من أهل العلم؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43] [6] وذلك لأنَّ هذا العلم دين يدين به العبد لربِّه ويلقاه به إذا مات عليه، ولهذا قال الإمام محمد بن سيرين[7] رحمه الله: (إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم)[8].
البناء الذاتي عبر معرفة مصادر التَّلقي الخاصَّة بمنهج أهل السنَّة والجماعة، ومناهج الاستدلال الصحيحة، وملء القلب بنور الوحي من الكتاب والسنَّة، مع ملازمة إجماع أهل السنَّة والجماعة، فإنَّ هذه المصادر عاصمة من قاصمة الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وسبب أكيد لسدِّ باب الشبهات المظلمات، وذلك - بعونه تعالى - مساعدٌ لحماية العقل المسلم من مضلاَّت الفتن.
قال أبو عثمان النيسابوري: (من أمرَّ السُّنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمرَّ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54][9] [10].
ومن ذلك إرجاع المجمل إلى المبيَّن، والمطلق إلى المقيَّد، والمؤوَّل إلى الظاهر، والجمع بين الأدلَّة التي ظاهرها التعارض، بالرجوع لكتب أهل العلم، واستقاء معاني الألفاظ من العلماء الربَّانيين، وكذا برد المتشابه إلى المحكم، وقد روت عائشة - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7] [11] ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله؛ فاحذروهم))[12].
4) التعلُّق بكتاب الله قراءة وفقهاً وتدبُّراً وعملاً، ولو أقبل الخلق على كتاب الله وانتهجوا بنهجه، لأجارهم - سبحانه - من الفتن، فالقرآن شفاء لما في الصدور، ومن يعرض عنه فسيصيبه من العذاب بقدر ابتعاده عنه ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴾ [الجن: 16، 17] [13] أي وأوحى إلي أن لو استقام هؤلاء المشركون من كفار قريش استقاموا على الإيمان والتوحيد والطاعة لله ولرسوله - وهم يشكون القحط - ﴿ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ فتكثر أموالهم وتتسع أرزاقهم، ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ أي لنخبرهم في ذلك الخير الكثير أيشكرون أم يكفرون؟ ثم إن شكروا زادهم، وإن كفروا سلبهم وعذبهم[14].
ورضي الله عن ابن عبَّاس إذ قال: (من قرأ القرآن فاتَّبع ما فيه هداه الله من الضَّلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة الحساب)[15] كما أنَّ هناك آثاراً كثيرة وردت عن السلف بأنَّه من ابتغى الهدى من غير كتاب الله، فإنَّ الله سيضلُّه، وقد جاء عن نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((إنَّ هذا القرآن سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسَّكوا به، فإنَّكم لن تضلُّوا ولن تهلكوا بعده أبداً)) [16] وأخبر صلى الله عليه وسلم حين كان يخطب بصحابته الكرام في حجَّة الوداع قائلاً لهم: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به. كتاب الله)) [17].
5) دراسة تاريخ الأمم، والحوادث الزمنيَّة السابقة، فإنَّ بذلك تتكوَّن لدى المرء حصيلة تراكميَّة معرفيَّة، وتتحقَّق من خلالها ثمرات عديدة منها: معرفة السنن الربَّانية، ومعرفة الحقائق الهامة في حياة البشريَّة، كما أنَّ دراسة التاريخ تعطي حصانة ضدَّ الخرافات والبدع والضلالات التي هي من أسباب الهزيمة والخذلان، والتاريخ كذلك يساعد على فهم الحاضر وتحليله[18]، وكل هذا مفيد لتحصين المرء من شبهات أهل الزيغ والكيد المعاصر.
6) اكتساب مهارات التفكير المتنوعة المنضبطة بالمنهج الإسلامي، والتي تعود الذهن على طريقة التحليل للعبارات والكلمات والمناهج، فتعطي للمرء دفعة حيويَّة واعتزازاً بمنهجه، وتجعل عقله وقلبه لا يعتمد في أخذه ونهله من شتَّى المعارف والعلوم إلاَّ على ضوء الدليل والحجَّة والبرهان، وليس لمجرد محاكاة الآخرين، أو تقليدهم، أو تسلط بعضهم على بعض؛ لكي يأخذوا بمنهجهم أو فكرهم دون بيَّنة، ولهذا فإنَّ الشخص المحصَّن يرفض ما يسمَّى بـ: (الدوجماتيَّة) أي: تسلُّط الأفكار والآراء غير الصحيحة.
ثانيا: حلول خاصة بأهل العلم والفكر والقيادة:
فيما يلي ذكر الحلول التي تخص أهل العلم الفكر والقيادة والتربية، حيث إني رغبت بأن تكون لهم كلمة تخصُّهم، من باب الاقتراح والتذكير (والذكرى تنفع المؤمنين)، وهي على النحو الآتي:
تنقية الثقافات ممَّا يعتريها من خلل، أو تشويش، فزمننا زمن الانفجار المعرفي والذي جعل الكم الهائل من المعرفة والمعلومات متاحة لنا في كل وقت، ومن المؤكَّد أنَّها تحوي الغث والسمين، ووظيفة المسلم حيال ذلك أن ينقي المعلومات من مصدرها، ويقدمها بصورة جيدة سلسة خالية من العيوب والنقائص، وهذا ما نحتاجه في زمن الاتصال الفكري = أن يكون هناك علاج للثقافة الوافدة إلينا وتمييز طيبها من خبيثها، فثقافة الأرض لكلِّ الأرض، ومن المهم الانفتاح عليها بشروط وضوابط، والدور المناط بأهل العلم والفكر المؤصَّلين والمتقدِّمين هو التنقية والتصفية لجميع الثقافات وإدخال الحسن منها إلى دائرة المحيط الإسلامي واستبعاد رديئها.
لقد كان يقول غاندي: (يجب عليَّ أن أفتح نوافذ بيتي؛ لكي تهبَّ عليها رياح كل الثقافات؛ بشرط ألاَّ تقتلعني من جذوري)[19] فإذا كان هذا قول لرجل كافر بالإسلام ويدين بالهندوسيَّة؛ ومع هذا فإنَّه محافظ على جذوره وثوابته التي يراها صحيحة، فما البال بالمسلم الذي يتلقَّى نور الوحي من كتاب الله وسنَّة رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم إنَّ الجدير به المحافظة على هويَّته والبعد أيَّما بعد عن الانمحاق بالمشاريع التي تستلب فكره وثقافته، شعر أم لم يشعر!
ومن جميل ما اطَّلعت عليه من كلام للشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - يتحدَّث عن هذا الصدد، فيقول: (إنَّ الموقف من الحضارة الغربيَّة ينحصر في أربعة أقسام لا خامس لها:
الأول: ترك الحضارة نافعها وضارها.
الثاني: أخذها كلها ضارها ونافعها.
الثالث: أخذ ضارها دون نافعها.
الرابع: أخذ نافعها وترك ضارها.
فنجد الثلاثة الأولى باطلة بلا شك، وواحداً فيها صحيحاً بلا شك، وهو الأخير)[20].
وبلغة فكريَّة موضوعيَّة يقول المفكر والباحث التربوي ماجد عرسان الكيلاني: (لا يُسمح للمسلمين بفتح الأبواب والنوافذ على مصاريعها لأي تيار غريب، وإنَّما الواجب أن يجري من خلال المختصين المسلمين الذين يتلقون الأفكار والعقائد والثقافات الوافدة من خارج ثم يدرسونها ويحللونها ويهضمونها ويسمحون لما يتلاءم مع روح الإسلام منها) [21].
2) العناية بعلم مصطلح الحديث وأصوله؛ فإنَّ له دور كبير في (جعل العقل المسلم ينتقل من عقل خرافي يتبع الظنون والأوهام إلى عقل علمي يتَّبع الحجَّة والبرهان، ومن عقل مقلِّد تابع إلى عقل متحرر مستقل، ومن عقل راكد إلى عقل متحرك، ومن عقلٍ مدَّعٍ متطاول إلى عقل متواضع، يعرف حدَّه فيقف عنده)[22].
3) معرفة مقاصد الشريعة، ومرامي الدين الإسلامي، لأنَّها تمنح المسلم قوَّة منهجيَّة كبيرة، ولقاحاً ضدَّ الانحرافات، و(معرفة المقاصد تعطي المسلم مناعة كافية، وخاصَّة في وقتنا الحاضر - ضدَّ الغزو الفكري والعقدي، والتيارات المستورة، والمبادئ البرَّاقة والدعوات الهدَّمة، التي يستتر أصحابها وراء دعايات كاذبة، وشعارات خادعة، ويبذلون جهدهم لإخفاء محاسن الشريعة وتشويه معالمها، والافتراء عليها، وإلصاق الشبه والأضاليل بها والتمويه على السذج والبسطاء وأنصاف المتعلِّمين بالطلاء الخادع والمكر المكشوف)[23].
4) إذا شعر المرء أو غلب على ظنِّه بأنَّه قد يفتن في دينه؛ فلا ينبغي له قراءة كتب أهل الهوى والزيغ، ولو قصد بذلك الردَّ عليهم، ومناقشة شبههم، لأنَّ درء المفاسد والانحرافات عن هذا المرء مقدَّمة على جلب المصالح في الذبِّ عن هذا الدين، بل ينأى المسلم بنفسه عن الشبهات، ولا يجعلها متهافتة على قبولها، ويجعل نفسه مطمئنَّة إلى الاستيقان بعظمة هذا الدِّين، وثبات أصوله، فيخلِّي قلبه ونفسه من متابعة الشبهات، ولا يجعلها لاقطة لأي تشكيك في دين الإسلام، وقد قيل: من اتَّقى الشبهات سلم قلبه من الشتات، ومن تأمَّل قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5] [24] فلما عدلوا وجاروا عن قصد السبيل أزاغ الله قلوبهم: يقول: أمال الله قلوبهم عنه[25].
وقوله: ﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحديد: 14] [26] أي: شككتم في خبر الله الذي لا يقبل شكا، ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ ﴾ الباطلة، حيث تمنيتم أن تنالوا منال المؤمنين، وأنتم غير موقنين، ﴿ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ ﴾ أي: حتى جاءكم الموت وأنتم بتلك الحال الذميمة. ﴿ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ وهو الشيطان، الذي زين لكم الكفر والريب، فاطمأننتم به، ووثقتم بوعده، وصدقتم خبره[27].
علم أنَّ بعض النفوس تتطاير على منافذ الشبهات والضلالات - عياذاً باللَّه - وحين بلغ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً يقال له: صبيغ بن عسْل قدم المدينة وكان يسأل عن متشابه القرآن، بعث إليه عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه وجلس قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. قال عمر: وأنا عبد الله عمر، وأومأ عليه، فجعل يضربه بتلك العراجين؛ فما زال يضربه حتى شجه، وجعل الدم يسيل عن وجهه، قال: حسبُك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي)[28].
لقد حدَّثتنا كتب التاريخ أنَّ عمران بن حطَّان، كان من رجال أهل السنَّة والجماعة، بل كان لديه شيء من العلم، ولكنَّ قلبه عشق امرأة من الداعيات لمنهج الخوارج، وهي الفرقة التي أخبرنا - عليه الصلاة والسلام - أنَّها تمرق من الإسلام كما يمرق السهم من الرميَّة - عياذاً بالله - وظنَّ عمران بن حطَّان برؤيته المبدئيَّة أنَّه يستطيع أن يصرف زوجه عن ذلك الرأي (المتطرف).
فعمران حين تزوجها وعلق قلبه بها، استطاعت زوجه أن تؤثِّر عليه، وتقلب فكره ليكون فيما بعد، زعيماً من زعماء الخوارج، وقائداً من قادتهم، وذلك لضعفه تجاه زوجه، واستيلاء الشبهة على قلبه، فكان ما كان! ولهذا قال عنه ابن حجر العسقلاني: (تزوج عمران امرأة من الخوارج ليردها عن مذهبها فذهبت به)[29].
التربية للنشء بما يرضي الله، والتحاور معه بتبيين فساد شبهات أهل الزيغ والهوى، مع قوَّة الإقناع، وأدب الحوار، فالتنشئة الصحيحة على التحصين العقدي هي أول عمليَّة في التربية؛ بتربيتهم على العقيدة الصحيحة، وحماية ذواتهم من العبث الفكري، وبناء الشخصية الإسلاميَّة التي لا تؤثِّر فيها تيَّارات التشكيك، وإرسالهم إلى المربِّين الثقات لتربيتهم على أصول ديننا، وإنَّ من مهام التربيَّة الجادَّة عدم تسليم الأبناء إلى الأماكن الموبوءة بالشبهات، فإنَّ ذلك خيانة وغش للرعيَّة، وفي الحديث الذي رواه معقل بن يسار المزني - رضي الله عنه - في مرضه الذي مات فيه: قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعيَّة يموت يوم يموت وهو غاش لرعيَّته إلاَّ حرَّم الله عليه الجنَّة)) [30] وأحد لفظي البخاري: ((ما من مسلم يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة)).
وما أجمل ما قاله أيوب السختياني[31] - رحمه الله -: (إنَّ من سعادة الحدث والأعجمي، أن يوفِّقهما الله لعالم من أهل السنَّة)[32]، ليكون أهل التربية معينين لهم على تقوية عقيدتهم، ودرء عبث غزاة الأفكار والعقول عنها، مع التحذير الملازم لهم بخطر الأخذ عن غير أهل السنَّة، وإن استطعنا منعهم من ذلك فهو الأحسن، إلاَّ أنَّ المنع لابد أن يكون بإقناع لهم، وقد يكون منعهم متعذراً في هذا الزَّمن، لأنَّهم قد يمنعون فتأتيهم ردَّة فعل تجعلهم يصرون على ما سيطالعونه أو يسمعونه، ولكن الأسلوب التربوي يرجِّح أن يناقش الأب أو المربِّي ذلك الشاب ويبيِّن له أوجه الخطأ التي وقع بها أهل الضلال، فلا منع مطلق، ولا إباحة مطلقة، بل إكسابهم مناعة فكرية وفق ضوابط وتحذير ودعم تربوي.
وقد يقول قائل: إنَّ منهج جمع من السلف الصالح منع الناس من سماع البدع والشبهات؛ وحقَّاً فإنَّ ذلك الأفضل ولا شك، ولكنَّ السلف الصالح في ذاك الزمن كانت قاعدته هي الإسلام وقيمه ومبادئه، وكان الأمر إليهم وبيدهم، وأمَّا الآن ليس لنا من قوَّة الإسلام ما كان، فإنَّ النَّاس في هذا الزمن للفتنة أقرب منهم للإسلام، وتربيتهم الآن تكون بقوَّة الكلمة الحقَّة التي تصنع المنهج، وتقنع المخاطب.
إنَّها حكمة في الأمور وتربية تستدعي التَّأمل والنظر في المآلات ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40] [33] ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن، فما له هداية ما. وهذا في مقابلة قوله تعالى في مثل المؤمنين ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35] [34] والجملة تقرير للتمثيل قبل، وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم، إذ لم يجاهدوا لنيل ذلك[35]، فمن الضروري أن نبني جيلاً محصَّناً - بإذن الله - من لقاحات الشبهات، وطُعمِ الشكوك، ليكونوا على قوَّة في دينهم تجاه الهجمات الشرسة التي يواجهها أهل الإسلام من أعدائه.
[1] سورة آل عمران: 8.
[2] سورة آل عمران: 120.
[3] مجموع الفتاوى: 3 /358، ويُنْسَبُ هذا القول للإمام سفيان الثوري - رحمه الله -.
[4] سورة السجدة: 24.
[5] تفسير السعدي ج1 - ص 656.
[6] سورة النحل: 43.
[7] محمد بن سيرين شيخ الإسلام أبو بكر الأنصاري مولى أنس بن مالك إمام وقته ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان. أدرك محمد ثلاثين صحابيا، قال بكر بن عبد الله المزني: من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا فلينظر إلى محمد بن سيرين. كان يتجر فإذا ارتاب في شيء تركه. من أقواله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه. مات سنة عشر ومائة بعد موت الحسن البصري بمائة يوم وله سبع وسبعون سنة. الفقيه والمتفقه 1/ 466.
[8] أخرجه مسلم في مقدِّمة صحيحه 1 /14.
[9] سورة النور: 54.
[10] مجموع الفتاوى: 14 /241.
[11] سورة آل عمران: 7.
[12] أخرجه البخاري برقم: 7454، ومسلم برقم: 2665.
[13] سورة الجن: 16-17.
[14] أيسر التفاسير للجزائري ج 5 - 452.
[15] أخرجه عبد الرزاق في المصنَّف: 6033.
[16] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف12 /165 وصحَّحه الألباني في الصحيحة 713.
أبو بكر بن أبي شَيْبَة 235 هـ عبد الله بن محمد بن القاضي أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن خواستى الإمام العلم، سيد الحفاظ وصاحب الكتب الكبار "المسند" و"المصنف" و"التفسير" أبو بكر العبسي مولاهم الكوفي. روى عن شريك بن عبد الله النخعي وعن حماد بن أسامة وحفص بن غياث وجرير بن عبد الحميد وابن عيينة وعدة. روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وإبراهيم الحربي وأحمد بن حنبل وأبو يعلى الموصلي وطائفة. قال يحيى الحماني: أولاد ابن أبي شيبة من أهل العلم، كانوا يزاحموننا عند كل محدث. وقال أحمد العجلي: كان ثقة حافظا للحديث. وقال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة. توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين. ميزان الاعتدال 2/ 490 والبداية والنهاية 10/ 328.
[17] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث جابر بن عبد الله، برقم:1218.
[18] بتصرف من : منهج كتابة التاريخ الإسلامي، لمحمد صامل السلمي، ص15 - 32.
[19] تعليم التفكير، لمحمود طافش، ص50.
[20] أضواء البيان: 4 /382.
[21] تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلاميَّة، للدكتور ماجد عرسان الكيلاني، ص198.
[22] بتصرف من : السنَة مصدراً للمعرفة والحضارة، للدكتور يوسف القرضاوي،ص205.
[23] مقطع من مقاصد الشريعة عند ابن تيميَّة: ليوسف محمد أحمد البدوي ص103.
[24] سورة الصف: 5.
[25] تفسير الطبري 23 - ص 358.
[26] سورة الحديد: 14.
[27] تفسير السعدي ج 1 - ص 839.
[28] أخرجه الآجرِّي في الشريعة: 75، واللالكائي بسنده في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4 / 703 وقد صحَّح ابن حجر إحدى روايات هذا الأثر في الإصابة5 /169 كما ذكره محقِّق كتاب اللالكائي.
أبو بكر الآجُرِّي 360 هـ: أبو بكر الآجري محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجري الإمام المحدث القدوة شيخ الحرم الشريف. مصنف كتاب "الشريعة" سمع أبا مسلم الكجي وجعفر بن محمد الفريابي ومحمد بن صالح العكبري وغيرهم. حدث عنه عبد الرحمن بن عمر بن النحاس. والمقرئ أبو الحسن الحمامي وأبو نعيم الحافظ. وكان صدوقاً خيراً عابداً صاحب سنة واتباع. قال الخطيب: كان ديناً ثقة. وقال السيوطي: كان عالماً عاملاً، صاحب سنة، ديناً، ثقة. وثناء الأئمة عليه أكثر. توفي سنة ستين وثلاثمائة. البداية والنهاية 11/ 288 وطبقات الحفاظ 379.
[29] تهذيب التهذيب: 8 /114.
[30] أخرجه مسلم في الإيمان رقم 227،1 /125.
[31] أيوب السختياني 131 هـ أيوب بن أبي تَمِيمة كَيْسَان السَّخْتِيَاني أبو بكر البصري الإمام الحافظ أحد الأعلام، سيد العلماء العنزي مولاهم الأدمي. مات في الطاعون سنة إحدى وثلاثين ومائة. حلية الأولياء 3/ 3 - 14.
[32] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة للالكائي 1 /60.
[33] سورة النور: 40.
[34] سورة النور: 35.
[35] محاسن التأويل ج 7 - ص 393.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم