أ. د. عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي
إن الإسلام كما يحرص على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فإنه يحرص كذلك على تحصين أبنائه من الزيغ والانحراف، والحفاظ عليهم من الاعتداءات الحسية والمعنوية، وللقرآن منهجه المتميز في هذا المجال.
ويمكن إجمال ذلك في أمرين، أو جانبين: أحدهما الإنشاء، والثاني الحماية والحراسة.. أما الأول وهو الإنشاء، فيراد به: التنشئة والتربية على مبادئ الإسلام، وفضائله، بحيث يتلقاها الفرد المسلم شيئاً فشيئاً منذ نعومة أظفاره، أو من حين دخوله في الإسلام، ومن أجل تحقيق هذه الهدف الكبير، جاء المنهج القرآني بالخطوات الآتية:
أولًا: الحض على طلب العلم:
وجاء هذا الحض بأساليب متنوعة:
1- الأمر بالتعلم، كقوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [محمد: 19]. قال البخاري في صحيحه من كتاب العلم: (باب العلم قبل القول والعمل لقول الله: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ فبدأ بالعلم)، ولقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، قال أبو حبان :(قيل : ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة من شيء إلا في طلب العلم).
2- التنويه بالعلم وبأهله وطلابه، ﴿ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ﴾ [الأنعام: 148] ، ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9] ، ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وفي قصة موسى مع الخضر أبلغ الدلالة على فضل العلم، وفضل تعلمه وتعليمه .
3- الحث على سؤال أهل العلم، والرجوع إليهم، ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: (فأمر بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم وجعل ذلك كالشهادة منهم).
4- ذم الجهل وأهله، ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، قال ابن القيم الجوزية في صدد بيان وجوه فضل العلم وأهله: (الوجه الثاني عشر: أنه سبحانه جعل أهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون فقال: ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]، فما ثم إلا عالم أو أعمى وقد وصف سبحانه أهل الجهل بأنهم صم بكم عمي في غير موضع من كتابه).
ثانيًا: حض القرآن على التفكر والنظر:
في الآيات القرآنية المقروءة: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219]، ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]، وفي الآيات الكونية المرئية: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20]، ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 190-191]، وفي قصص الماضين: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176]وفي هذا الأسلوب القرآني دعوة إلى تحرير العقل من التقليد الأعمى، والتعصب المقيت.
ثالثًا: دعوة القرآن إلى الدخول في الإسلام والإيمان والإحسان:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 208]، قال الطبري: (أي ادخلوا في العمل بشرائع الإسلام كلها)، وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ﴾ [النساء: 136]، ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، ومما هو معلوم أن ألفاظ (الإسلام والإيمان والإحسان) تشمل دين الله كله دقه وجله.
رابعًا: دعوته إلى العمل الصالح والأخلاق الكريمة:
وقد جاءت هذه الدعوة مقرونة بالإيمان، كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 7]، وقوله: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].
خامسًا: دعوة إلى التقوى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ﴾ [التغابن: 16]، والجمع بين الآيتين، أن الآية الثانية بيان للأولى، والمعنى: اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، قاله القرطبي، ثم قال: هذا أصوب من القول بالنسخ، أما التقوى فهي كما يقول الأصفهاني: جعل النفس في وقاية مما يخاف.
أما الجانب الثاني من منهج القرآن في تحصين الفكر، فيتمثل في حماية المسلم وحراسته من العاديات المضلة، سواء أكانت شبهات أم شهوات.. أما الحماية من الشبهات، فللقرآن في ذلك عدة أساليب من أهمها:
1- التحذير من الشرك والكفر، ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31]، ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 6].
2- التحذير من الزيغ والنفاق، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]، ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [آل عمران: 8]، ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 60].
3- التحذير من الغلو والتطرف، ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [النساء: 171]، قال الشوكاني: الغلو: التجاوز في الحد، من غلا السعر يغلو غلاه.
4- التحذير من استحلال محارم الله بالحيل، فقد قص علينا القرآن قصة أصحاب السبت، وهم اليهود الذين عملوا الحيل للصيد ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ﴾ [الأعراف: 163]، قال ابن تيمية: (وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وبموسى، وإنما ذلك تأويل واحتيال، ظاهره الاتقاء، وحقيقته الاعتداء، ولهذا والله أعلم مسخوا قردة).. ثم قال ابن القيم بعد ذلك: (فحقيق من اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والحيل، وأن يعلم أنه لا يخلص من الله ما أظهره من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن لله يومًا تكع فيه الرجال، وتنسف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتبلى فيه السرائر، وتظهر فيه الضمائر، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون).
وأما الحماية من الشهوات، فكذلك جاءت في عدة أساليب منها:
1- بيان خطر المعصية في الدنيا، ﴿ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ﴾ [المزمل: 16]، ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 78].
2- بيان خطرها في الآخرة، ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الجن: 23]، ﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأنعام: 15].
3- بيان أن المعصية سبب الضلال، ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
4- أنها سبب الغي ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 121].
ولاشك أن آثار المعصية - ولاسيما الكبائر منها - كثيرة جداً، سواء على العاصي نفسه، أو على المجتمع، أو على البيئة، وقد بين ابن القيم رحمه الله كثيراً منها في كتابه المعروف (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي).
على أن ثمة وسائل قرآنية عامة تعمل على حماية المسلم، والمجتمع المسلم من الانحرافات، من أهمها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه آيات كثيرة تدل عليه، والجهاد لكل معاند من كافر أو مارق أو خارج على الجماعة، والعقوبات الشرعية من القصاص والديات والحدود والتعزيرات.
تلك شذرات وإشارات عن منهج القرآن في تحصين المسلم من الانحراف الفكري، وهو منهج يهدف إلى إصلاح الفرد والجماعة، وإحلال الأمن والسلام والسكينة في قلوبهم، وعقولهم، ونفوسهم .. والله الموفق.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم