اقتباس
يضيعون الماء ويهدرونه ويسرفون فيه ولا يدرون أنهم موقوفون ومسؤولون عنه يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة أن يقال له: ألم أصح لك جسمك وأروك من الماء البارد"...
تتعدد النعم من الله -تعالى- على البشر فهي لا تُحصى؛ نعم ظاهرة ونعم باطنة، نعم دنيوية ونعم أخروية... وتبقى من أجل النعم الدنيوية الظاهرة على الإطلاق: نعمة الماء فهو أساس كل حياة وأصل كل نماء وسبب كل حضارة وعمران، وصدق الله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)[الأنبياء: 30]، فحيثما وُجِد الماء وُجدت الحياة، وحيثما فُقد الماء كان الجدب والقحط والمجاعات.
والماء من نعيم الدنيا والآخرة؛ فقد قال الله -تعالى- عن الماء الطهور: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)[الفرقان: 48-49]، وجعله -عز وجل- جائزة دنيوية لمن أقام شرعه: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الجن: 16].
وأما في الآخرة فلما عدَّد القرآن مشروبات أهل الجنة كان أولها الماء: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ)[محمد: 15]، كذلك فأمنية أهل النار قطرة من ماء الجنة: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ...)[الأعراف: 50]، ولما شرب عبد الله بن عمر ماء باردا بكى فاشتد بكاؤه فقيل له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت آية في كتاب الله -عز وجل-: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)[سبأ: 54]، قال: فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئا إلا الماء البارد(رواه أحمد في الزهد).
***
لكن الماء -كما قال الشعبي: "أعز مفقود وأهون موجود"( المجالسة للدينوري)، فإن كثيرا من الناس لا يدركون قيمته إلا إذا فقدوه، وطالما هو متوفر تحت أيديهم فهم له يضيعون وفيه يسرفون وعليه يعتدون ويبذرون!
فالصنابير تالفة تقطر ماءً ليل نهار في غير فائدة، ويغتسل الفرد الواحد بما يكفي عشرة أفراد يشربون منه لعشرة أيام! وفي الحدائق والمتنزهات تسيل المياه فوق حاجة الزرع والغرس! ثم دث ولا حرج عن حمامات السباحة التي يتبدد فيها كميات هائلة من الماء... يضيعون الماء ويهدرونه ويسرفون فيه ولا يدرون أنهم موقوفون ومسؤولون عنه يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة أن يقال له: ألم أصح لك جسمك وأروك من الماء البارد"(رواه الحاكم في مستدركه).
ولقد مر النبي -صلي الله عليه وسلم- بسعد وهو يتوضأ، فقال: "ما هذا السرف يا سعد؟ "، قال: أفي الوضوء سرف؟، قال: "نعم، وإن كنت على نهر جار"(رواه أحمد، وحسنه الألباني)، ولقد أكد الإمام أحمد قائلًا: "من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء"، وقال المروزى: "وضأت أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من الناس، لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء لقلة صبه الماء"، وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى(إغاثة اللهفان، لابن القيم)... فإن كان ذلك لا يحل في عبادة نتعبد بها لله -تعالى-، فكيف يستحلونه في غيرها؟!
وينطبق على كل مسرف في الماء ما قاله القرآن عن المسرفين والمبذرين؛ من أن الله لا يحبهم: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]، ومن أنهم إخوان الشياطين: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)[الإسراء: 26-27]...
***
فيا من تسرفون في الماء: احذروا أن تحرموا منه فلا تجدوا منه قطرة؛ فإن النعم تدوم مع الشكر، وتنزع بسبب الكفران: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]، يقول ابن كثير مفسرًا: "أي: لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، (ولئن كفرتم) أي: كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها، (إن عذابي لشديد)؛ وذلك بسلبها عنهم، وعقابه إياهم على كفرها".
وفي القرآن الكريم يقول الجليل -سبحانه وتعالى- محذرًا: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة: 68-70].
ولست وحدي من ينبه على خطورة الإسراف في الماء، بل كل خطبائنا يحذرون منه وينذرون ويخوفون من عواقبه، وقد انتقينا ها هنا بعضًا من خطبهم التي تنبه على خطورة الأمر وعلى ضرورة محاربة الإسراف في الماء والترشيد فيه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم