اقتباس
يقول البشير الإبراهيمي: "من اللطائف الحكمية أن القتال لم يشرع في القرآن بصيغة "شرع" أو "وجب" أو غيرهما من صيغ الأحكام، وإنما جاءت الآية الأولى فيه بصيغة "الإذن" المشعرة بأنه شيء معتاد في الاجتماع البشري، ولكنه ليس خيرًا محضًا...
كانت الدنيا وئامًا وسلامًا متصلًا، من يوم أن أُهبِط آدم -عليه السلام- على الأرض إلى يوم أن حمل قابيل الحقد على هابيل، وعندها وقعت أول جريمة قتل على وجه الأرض، وسُفكت أو قطرة دم حرام: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[المائدة: 30]، وندم قابيل أشد الندم، ولكن بعد فوات الأوان: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)[المائدة: 31].
ومن يومها لا تُقتَل نفسٌ ظلمًا إلا حمل ابن آدم القاتل جزءًا من وزها، هكذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقتل نفس ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل"(متفق عليه).
وإلى هذا الحد كان المقتول واحدًا، ثم لا ندري متى ظهرت فكرة الحرب، تلك العملية البشعة التي تُحصد فيها الأرواح، وتُزهق فيها النفوس، وتُسفك فيها الدماء، وتُخرَّب فيها الديار، وتباد فيها النعم والذراري والأموال، وتتخطى فيها أعداد القتلى العشرات أو المئات أو الآلاف أو الملايين...
وهذا التقتيل والفساد والإفساد والتخريب هو القدر المشترك بين جميع الحروب، لكن أسباب هذه الحروب تختلف من أمة إلى أمة، وعلى مدار التاريخ البشري كانت أغلب الحروب بدافع ديني أو عصبي أو مادي؛ فتُشن الحرب لنشر دين أو ملة أو نحلة، وتُشن الحرب عصبية لعرق أو قبيلة أو طائفة، وتُشن الحرب للاستيلاء على خيرات وثروات الأمم الأخرى ونهبها...
وما كان للحرب من هدف سام نبيل يومًا ما على هذا الأرض إلا في ظل الإسلام وتعاليمه ومبادئه الخالدة، والذي جعل للحرب الهجومية غاية واحدة وهدفًا واحدًا هو رفع الظلم عن الأمم المقهورة تحت حكامها المتجبرين الذين يمنعون رسالة الإسلام أن تصل إلى شعوبهم، ثم دعوة هذه الشعوب إلى الدخول في الإسلام طواعية بلا إكراه...
ولقد لخص ربعي بن عامر هذا في كلماته المشهورة التي وجهها إلى رستم قائد الفرس: "الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا، حتى نفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي"(تاريخ الطبري)، فالغاية من الحرب في الإسلام في جملة واحدة هي: "تعبيد الناس لرب العالمين".
أما الحرب الدفاعية فهي مشروعة لكل أمة وقع عليها ظلم واعتداء لم تستطع دفعه إلا بالحرب، بل هي فطرة حتى في الحيوانات والطيور والحشرات وجميع الكائنات أن تدافع عن نفسها، بما في ذلك الأمة الإسلامية، يقول الله -تعالى-: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 39-40]، يقول البشير الإبراهيمي: "من اللطائف الحكمية أن القتال لم يشرع في القرآن بصيغة "شرع" أو "وجب" أو غيرهما من صيغ الأحكام، وإنما جاءت الآية الأولى فيه بصيغة الإذن المشعرة بأنه شيء معتاد في الاجتماع البشري، ولكنه ليس خيرًا محضًا ولا صلاحًا سرمدًا، وإنما هو شر أحسن حالاته أن يدفع شرًّا آخر.
ومما وقر في نفوس البشر أن بعض الشرور لا تُدفع بالخير، ولا تنقصم إلا بشرٍّ آخر، وإذا كانت الأحكام على الأشياء إنما هي بعواقبها وآثارها، فإن الشرَّ الذي يدفع شرًّا أعظم منه يكون خيرًا؛ كقطع بعض الأعضاء لإصلاح بقية البدن"(نقلًا عن موقع: الدرر السنية).
***
ولأن السلام في الإسلام هو الأصل والقاعدة، ولأن الحرب لا تُشرع إلا في حالة الضرورة والاضطرار، فإنه قد حاطها بسياج من الرحمة والسمو والمبادئ الأخلاقية العليا، ومن جملة هذه المبادئ:
الوفاء بالعهد مع الأعداء: يقول -تعالى-: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[التوبة: 4]، وعن عمرو بن الحمق قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أيما رجل أمَّن رجلًا على دمه ثم قتله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول كافرًا"(رواه ابن حبان).
ومنها: عدم التعرض لمن اعتزل الحرب، والكف عمن قبل الإسلام -خاصة الشيوخ والأطفال والنساء-: فعن بريدة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم"(رواه مسلم).
وروى أبو يعلى في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقتلوا أصحاب الصوامع"، فلا يُقتل عُبَّادهم الذين اعتزلوا في صوامعهم.
ومنها: الإحسان إلى الأسرى: فقد أثنى الله -تعالى- على من أطعم أسيرًا: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)[الإنسان: 8].
ومنها: عدم التمثيل بالجثث: فعن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النهبى والمثلة"(رواه البخاري)، قال مصطفى البغا: "(النهبى) أخذ الشيء من أحد عيانًا وقهرًا، (المثلة): العقوبة في تقطيع الأعضاء كجذع الأنف والأذن وفقء العين ونحوها، إلا إذا كان ذلك قصاصًا".
***
واليوم وقد تعالت أصوات من الغرب تنادي بمقاومة الحروب والاحتلال، حتى جعلوا له يومًا عالميًا لمقاومة الحروب والاحتلال، فإننا -معاشر المسلمين- نؤيد كل نداء إلى وقف الظلم والاعتداء، وإلى وقف سفك الدماء البريئة بغير حق.
لكننا -رغمًا عنا، وبغير اختيار منا- تعود ذاكرتنا إلى كثير من التجبر والطغيان والدماء المسفوكة والبلاد المحروقة زمان الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية، وتتخاطر الخواطر حول ما ذاقت الدول الإسلامية في التاريخ الحديث من ويلات أيام الاحتلال البريطاني والفرنسي والإيطالي والألماني والإسباني للدول العربية والإسلامية، نتذكر آلاف الجثث التي سالت دماؤها بحورًا في ساحات المسجد الأقصى، ولآلاف أخرى قُطعت رقابها في الجزائر وليبيا ومصر وتونس والمغرب...وغيرها، وعندها يعزو عقولنا قول الشاعر:
ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح
لكننا نعود سريعًا لمبدئنا القرآني: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الأنفال: 61]، فإن السلام في الإسلام هو الأصل، وما الحرب إلا استثناء لضرورة تقدر بقدرها.
وهي بعض الخطب القيمة التي تناقش هذا الأمر؛ أمر الحرب والسلام في الإسلام، وتبين أصوله وحدوده وضوابطه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم