اقتباس
إن من فضل الله -عز وجل- علينا وعلى الناس أن جعل شهر رمضان موسمًا للطاعات والعبادات؛ فكما أوجب الله علينا صيام شهر رمضان، سنَّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيام ليالي رمضان، فالمسلمون في شهر رمضان مشغولون في نهاره بالصيام وفي ليله بالقيام، بل جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- قيام ليلة واحدة هي ليلة القدر سببًا للمغفرة...
إن من فضل الله -عز وجل- علينا وعلى الناس أن جعل شهر رمضان موسمًا للطاعات والعبادات؛ فكما أوجب الله علينا صيام شهر رمضان، فقال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]. وسنَّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيام ليالي رمضان، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (أخرجه البخاري (37)، ومسلم (759).
فالمسلمون في شهر رمضان مشغولون في نهاره بالصيام وفي ليله بالقيام، بل جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- قيام ليلة واحدة هي ليلة القدر سببًا للمغفرة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه" (أخرجه البخاري (1901) ومسلم (759).
وقد رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في قيام رمضان بالقول وبالفعل، وخرج على أصحابه أول ليلة من رمضان وصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون، فاجتمع أكثرهم في الليلة الثانية، ثم في الليلة الثالثة اجتمع أكثر من الثانية، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في صلاة الفجر، وقال لهم: «لم يخفَ عليَّ مكانكم، ولكني خشيت أن تُفرض عليكم فتعجزوا عنها». (صحيح البخاري 924).
ومات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك، حتى جاء عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، وقال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون.
ومراد عمر -رضي الله عنه- البدعة بمعناها اللغوي لا بمعناها الشرعي، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وقد ذكر الشافعي وجمهور أصحابه وأحمد وأبو حنيفة أن صلاة التراويح في جماعة أفضل؛ لفعل عمر -رضي الله عنه-، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة فأشبهت العيد. وأجمع الصحابة على فعل عمر -رضي الله عنه- وهو من الخلفاء الراشدين المهديين الذين هم أعلم الناس بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" (سنن الترمذي 2676 وصححه الألباني).
وبعد وفاة عمر -رضي الله عنه- مر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم يصلون صلاة التراويح في رمضان فقال: "نوَّر الله قبر عمر كما نوّر مساجد المسلمين في رمضان". واستمر على ذلك عمل الأمة إلى يومنا هذا، وهذا إجماع على صحة فعل عمر -رضي الله عنه-.
قيام الليل سمة الصالحين: قيام الليل لا يعتاده إلا الصالحون، الذين يحبون أن يتقربوا من ربهم بسائر النوافل، ومن أهم هذه النوافل إحياء الليل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والاستغفار، وليالي شهر رمضان باب عظيم من أبواب القربات والتنافس في الخيرات، وإن إحياء هذه الليالي في أعمال البر والخير لهو عمل جليل يثاب عليه العباد. وإن قيام الليل شعار الصالحين، ودأب المتقين، ومن صفات عباد الرحمن المخلصين، قال جل شأنه: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان: 64]، وقال سبحانه: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17- 18].
قال الحافظ ابن كثير: "كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر، وفي سورة السجدة يصف الله سبحانه عباده المتقين وجنده العاملين بقوله: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16 - 17]". وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل، فقال: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم». (الحاكم في المستدرك وحسنه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام». (رواه أحمد في المسند وصححه الألباني).
وقيام الليل مطردة للشيطان؛ حيث ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الشيطان يعقد على قافية الإنسان ثلاث عُقد عند نومه، فإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإن توضأ انحلت الثانية، وإذا صلى انحلت الثالثة، فأصبح نشطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس، كسلان. (رواه البخاري).
وفي صحيح الترغيب والترهيب قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم.. وذكر منهم: والذي له امرأة حسنة، وفراش لين حسن، فيقوم من الليل فيقول سبحانه: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد». وصلاة التراويح هي قيام ليل رمضان، وسُميت بذلك لطولها وكثرة عدد ركعاتها، وكان المسلمون يستريحون بعد كل أربع ركعات، ثم يتابعون الصلاة، وفيها قال -صلى الله عليه وسلم-: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه». (متفق عليه).
عدد ركعاتها: صلاة التراويح وقيام الليل الأمر فيها واسع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحدد عددًا معينًا لأصحابه، بل كان -صلى الله عليه وسلم- لا يزيد عن ثلاث عشرة ركعة مع طول القراءة، فلما جمعهم عمر -رضي الله عنه- كانوا يصلون عشرين ركعة ويوترون بثلاث، ويخففون القراءة بقدر زيادة عدد الركعات. قال شيخ الإسلام: والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كفعله -صلى الله عليه وسلم- فهو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين أفضل، ثم قال رحمه الله: ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يزاد منه ولا ينقص فقد أخطأ. ومن آداب تلك الصلاة:
1- عقد النية وإخلاصها لله رب العالمين يقول سبحانه: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة: 5]، وقال جل شأنه: (وما أمروا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 5].
2- وأن يبدأ الصلاة بركعتين خفيفتين، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل ليصلي افتتح بركعتين خفيفتين. رواه مسلم.
3- صلاة التراويح تكون مثنى مثنى. روى عبد الله بن عمر أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صلاة الليل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة فتوتر له ما قد صلى» (رواه البخاري). 4- ترتيل القراءة مع تدبرها، وإن قل عدد الركعات أولى من كثرتها مع عدم الترتيل، وإلى ذلك الرأي ذهب ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهما-.
5- الاستراحة بين كل أربع ركعات ؛ لأنه مما تواتر عن السلف أنهم كانوا يطيلون القيام يسلمون من كل ركعتين. والوتر سنة مؤكدة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي الحديث: «يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر». [أبو داود وصححه الألباني].
وقد أجمع أهل العلم على أن الوتر ليس بفريضة، ووقته من بعد صلاة العشاء إلى قبل طلوع الفجر، بحيث تكون آخر صلاته بالليل وترًا، فعن عبد الله بن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اجعلوا آخر صلاتكم وترًا"، والأولى لمن تيقن القيام آخر الليل تأخير الوتر، ومن غلب على ظنه أنه لن يقوم فليوتر قبل النوم. فعن جابر بن عبد الله قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: «من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل» (رواه مسلم).
وأقل ركعات الوتر ركعة واحدة وأكمله إحدى عشرة أو ثلاث عشرة، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الوتر بسبح والكافرون والإخلاص كما في حديث أبي بن كعب، وإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات. وكان يقنت في الوتر، وعلّم الحسن بن علي أن يقول في الوتر: «اللهم عافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، واهدني فيمن هديت، وقني شر ما قضيت، وبارك لي فيما أعطيت، إنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، سبحانك ربنا تباركت وتعاليت» (ابن ماجه وصححه الألباني). فنسأل الله أن يتقبل منا الصيام والقيام والسجود والركوع والدعاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ومن أجل معالجة هذا الموضوع وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم هذه الخطب المنتقاة، ونسأل الله لنا ولكم الإخلاص والقبول وحسن الخاتمة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم