عناصر الخطبة
1/ ميدان الإعداد 2/ الرسول -عليه السلام- وقيام الليل 3/ فضائل قيام الليل وفوائده 4/ معوقات قيام الليلاقتباس
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلم الناس بالله، وأتقاهم له، يخلو ذاكرًا ربَّه، كلما سنحت له فرصةٌ يتعبَّد لخالقه، فإذا جاء الليل وأرخى سدوله توجَّه إلى معبوده -عز وجل-، ينادي، يدعو، يتضرع بين يديه قائمًا وقاعدًا وساجدًا، حتى يكاد الليل أن ينجلي وهو لم يشعر بطول القيام، وكيف له أن يشعر بذلك، وهو خالٍ بالله تعالى، خالٍ بملك الملوك، مستأنسٌ بمناجاته، متلذِّذ بعبادته ..
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: قال الله تعالى: (ياأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل:1-5].
خطابٌ للرسول –صلى الله عليه وسلم- كي يُعدَّ للقول العظيم والرسالة الثقيلة، ومحضنُ الإعداد مدرسةُ الليل التي تفتح القلب، وتوثِّق الصلة بالله، وتشرق بالنور.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلم الناس بالله، وأتقاهم له، يخلو ذاكرًا ربَّه، كلما سنحت له فرصةٌ يتعبَّد لخالقه، فإذا جاء الليل وأرخى سدوله توجَّه إلى معبوده -عز وجل-، ينادي، يدعو، يتضرع بين يديه قائمًا وقاعدًا وساجدًا، حتى يكاد الليل أن ينجلي وهو لم يشعر بطول القيام، وكيف له أن يشعر بذلك، وهو خالٍ بالله تعالى، خالٍ بملك الملوك، مستأنسٌ بمناجاته، متلذِّذ بعبادته، مقبلٌ عليه بقلبه وجسده، (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة:16، 17]، قيل للحسن البصري -رحمه الله-: ما بال المتهجّدين من أحسن الناس وجوهًا؟! قال: "لأنهم خلوا بالرحمن ففاض عليهم من نوره".
إن قيام الليل -عباد الله- عبادةٌ تصل القلب بالله، وتجعله قادرًا على مقاومة مغريات الحياة، وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات، ونامت فيه العيون، ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة، قال تعالى: (كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِلأَسْحَـارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 16، 17].
ما أكثر الفوائد التي يجنيها الفرد من قيام الليل، لتربية ذاته وصلاح حاله، ومن أهمِّ الثمار تنميةُ وازع الإخلاص، تحقيق المتابعة بالاقتداء بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.
ومن تدبر القرآن أثناء هجوع الناس أحسَّ بتقصيره، وندم على تفريطه، ومن خشع في القرآن والصلاة سالت منه عبرات الندم والتوبة، وإذا ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه حشره رب العزة والجلال في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولا عفوَ إلا عفوه.
عباد الله: للذكر في صلاة الليل حلاوته، وللصلاة في الليل خشوعُها، إنها لتسكب في القلب أنسًا وراحة ونورًا، ولذا يقول أحد السلف: "أهلُ الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم".
يقول الحسن البصري -رحمه الله- عن سلف الأمة: "لقد صحبتُ أقوامًا يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، يقومون هذا الليل على أطرافهم، تسيل دموعهم على خدُودهم، فمرة رُكعًا، ومرةً سجَّدًا، يناجون ربَّهم في فكاك رقابهم، لم يملّوا طول السهر لِما خالط قلوبهم من حسن الرجاء، فأصبح القوم مما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يَأملون من حسن ثوابهم مستبشرين، فرحم الله امرأً نافسهم، ولم يرضَ لنفسه من نفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله، فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة". انتهى كلامه -رحمه الله-.
عباد الله: قيامُ الليل يورثُ القلبَ رقةً ونورًا، قال عطاء الخراساني: "كان يقال: قيام الليل محياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في البصر، وقوة في الجوارح، وإن الرجل إذا قام من الليل متهجدًا أصبح فرحًا يجد لذلك فرحًا في قلبه، وإذا غلبته عيناه فنام عن حزبه أصبح حزينًا منكسرَ القلب، كأنه قد فقد شيئًا، وقد فقد أعظم الأمور له نفعًا". انتهى كلامه.
أخي المسلم: ربُّك يعجب ممّن يقوم الليل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجب ربنا -عز وجل- من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحِبِّه إلى صلاته، فيقول ربنا: أيا ملائكتي: انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه، ومن بين حِبّه وأهله إلى صلاته؛ رغبةً فيما عندي وشفقةً مما عندي". أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. فيا له من عمل جليل، قيامُ الليل يعجب ربُّك من رجاله.
من ابتغى الشرف والرفعة فليداوم على قيام الليل لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "شرف المؤمن قيامه بالليل".
قيام الليل دأب الصالحين، قربةٌ إلى الله تعالى، منهاة عن الإثم، تكفير للسيئات، مطردة للداء عن الجسد، كما ثبت ذلك من حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
قيام الليل سببُ رفع الدرجات، وبابٌ عظيم من أبواب الخير، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلك على أبواب الخير؟! الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل". أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي.
المسلم حين يتسلل من فراشه في ظلمة الليل البهيم، ويتوضأ بالماء البارد، ثم يقف بين يدي ربه يناجيه، ويدعوه في الصلاة، فإن الرب -تبارك وتعالى- يذكره، ويفاخر ملائكته، يسمع ابتهاله واستغفاره، يسمع تسبيحه وتمجيده في وقت يهجع الناس وينامون، وربّ الناس وخالقهم لا يغفل ولا ينام، يقول الله تعالى: "هل من تائب فأتوب عليه؟!".
إن ربنا ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل فيجيب دعوة الداعي، ويعطي السائلَ سؤله، ويغفر ذنبَه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل الله إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يقضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟! من ذا الذي يسألني فأعطيه؟! من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟! فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر". متفق عليه.
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كلَّ ليلة". أخرجه مسلم.
وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنة فقال: "إن في الجنة غرفةً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها"، فقال أبو موسى الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟! قال: "لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وباتَ لله قائمًا والناس نيام". أخرجه أحمد.
قال الفضيل بن عياض: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم قد كثرت خطيئتك".
وقال رجل للحسن البصري: إني أبيت معافىً وأحبُّ قيامَ الليل وأعدّ طهوري، فما بالي لا أقوم؟! فقال: "قيَّدتك ذنوبك".
وإذا لم يكن لك حظّ من الليل فكن كما قال بعض السلف: "إن لم يكن لك حظّ من الليل فلا تعصِ ربك في النهار"، عن سهل بن سعد -رضي الله عنهما- قال: جاء جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا محمد: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به"، ثم قال: "يا محمد: شرف المؤمن قيام الليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي منَّ على العباد بالطاعات، أحمده سبحانه وأشكره على المكرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الدال على الخيرات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله: من جدّ واجتهد في طلب أمر ضحّى من أجله، وفي سبيله استسهل الصعب، وتلذذ بأي مشقة في الدرب، يتقلب في أنواع القربات والطاعات ليلاً ونهارًا، يومه كله عبادة، وجوارحه في طاعة، تراه قائمًا، فإذا فرغ أمسك القرآن بيده تاليًا، ثم لهج لسانه بالذكر والاستغفار مردِّدًا، ثم رفع أكفَّ الضراعة سائلاً، قلبُه خاشع، لسانه ذاكر، عينه باكية، جوارحه خاضعة، قد شُغِل عن جميع الناس بطاعة إله الناس.
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم