اقتباس
وحقيقة الوصية ومعناها: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت عن طريق التبرع؛ سواء كان ذلك في الأعيان أو في المنافع، وسميت بذلك؛ لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته، وهي مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ والأدلة على...
إن من أجل نعم الله على عباده؛ نعمة المال الذي به يصلح أمر الدنيا والآخرة إذا كان اكتسابه بالطرق المشروعة وإنفاقه كذلك؛ كالنفقة على الأهل والأقارب والصدقة على الفقراء والمساكين والمعسرين وكذا في نصرة دين الله وبناء المساجد وتعليم القرآن ونشر العلم، وغيرها من أبواب الخير التي يتقرب بها العبد في حياته من ربه -عز وجل-؛ أو بعد موته ويجري عليه ثوابها بعد وفاته، كالوصية بثلث ماله وصرفها في وجوه البر والصلة والإحسان. وسنحاول -أيها الفضلاء- في هذه المقدمة اليسيرة أن نعرج حول شيء من موضوع الوصية؛ على أن يكون البسط أكثر في مواد الملف المرفقة ومحاوره؛ سائلين المولى عونه وتوفيقه. الوصية حقيقتها ومعناها: هي تمليك مضاف إلى ما بعد الموت عن طريق التبرع؛ سواء كان ذلك في الأعيان أو في المنافع؛ وسميت بذلك لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته.
والوصية مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ والأدلة على ذلك كثيرة، ففي الكتاب العزيز قوله الحق -تبارك وتعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[البقرة: 180]؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا)، يعني، "مالًا"، كما أن المراد بحضور الموت؛ حضور أسبابه وأماراته من الأمراض والعلل، وليس المراد منه معاينة الموت؛ لأنه في ذلك الوقت يعجز عن الإيصاء. ومن النصوص التي دلت على مشروعية الوصية، قوله تعالى في توزيع الميراث والتركة: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ)[النساء:12]، وقوله سبحانه: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ)[النساء:12]، وقد جعلت هذه النصوص الصريحة الميراث حقًا مؤخرا عن تنفيذ الوصية وأداء الدين؛ فدل ذلك على مشروعية الوصية.
ومن تأمل بعين البصيرة والفقه في الوصية وجد أن الحكمة في تشريعها تتجلى في جوانب عدة، ومن ذلك: أنها فضل من الله على عباده، ورحمته بهم، حينما جعل للمسلم نصيباً من ماله يفرضه قبل وفاته في أعمال البر التي تعود على الفقراء، والمحتاجين بالخير والفضل، ويعود على الموصي بالثواب والأجر في وقتٍ حيل بينه وبين العمل، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[البقرة:180].
ومن الحكمة كذلك أن العبد قد يغفل في حياته عن أعمال الخير والبر؛ فينال بالوصية زيادة في القربات والحسنات، ويتدارك ما فرط فيه في حياته. وأما حكم الوصية فقد بينه أهل العلم؛ حيث ذكروا أن الوصية تدور عليها الأحكام الخمسة: فتارة: تكون واجبة إذا كان عليه حق لله -تعالى-، ككفارة لم يؤدها حتى حضرته الوفاة؛ فيوصي من يؤديها عنه، أو كان عليه دين لم يوثقه بالكتابة، ولا بينة للدائن عليه؛ فيجب أن يوصي به؛ لئلا يضيع حق الدائن؛ ولئلا يوقع الحرج على ورثته إذا طولبوا بحقوق لا بينة عليها.
وتارة: تكون مستحبة إذا كان الرجل ذا ثراء، وورثته وقرابته أغنياء؛ فيوصي بثلث ماله؛ فما دونه فيما يعود عليه بالنفع في أخراه؛ لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" (رواه مسلم).
وتارة: تكون الوصية محرمة وذلك إن قصد الموصي الإضرار بالورثة كالوصية لوارث؛ لأن في ذلك اعتراضا على قسمة الله -تعالى- التي قسمها في الورثة؛ ولقول النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" (رواه الترمذي)، قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "لِتَكُونَ وَصِيَّتُهُ عَلَى الْعَدْلِ، لَا عَلَى الْإِضْرَارِ وَالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ بِأَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَنْقُصَهُ، أَوْ يَزِيدَهُ عَلَى مَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْفَرِيضَةِ؛ فَمَتَى سَعَى فِي ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حِكْمَتِهِ وَقِسْمَتِهِ؛ ثم أسند إلى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ".
وتارة: تكون الوصية مكروهة، كما لو كان فقيرا، وله ورثة يحتاجون ماله؛ فيوصي بشيء منه لغيرهم وهم أولى به وأقرب إليه، أو يوصي به في قرابة وهم أولى من يُتصدق عليه، كما قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ" (رواه مسلم)، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه-: "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ" (رواه البخاري ومسلم). وللوصية فضل عظيم ووقد ذكر طائفة من أهل العلم شيئا من ذلك، فمن ذلك ما قاله الشعبي -رحمه الله-: "من أوصى بوصية فلم يَجُرْ ولم يحِفْ كان له من الأجر مثل ما إن لو تصدق به في حياته".
أيها المسلمون: ويشترط لصحة الوصية، أن يكون الموصي أهلاً للتبرع، وأن يكون راضياً مختاراً، وأن يكون مالكاً لما يوصي به، وأن يكون الموصى له حسن التصرف، وأن يكون معلوماً بنفسه أو صفته، وأن تكون الجهة الموصى لها جهة بر لا جهة معصية، وأن يكون الموصى له بالمال غير وارث، كما يشترط في الموصى به أن يكون مالاً يباح الانتفاع به شرعاً، وألا يكون بأكثر من ثلث ماله إن كان له وارث، وحصول الإيجاب من الموصي بقول أو فعل أو كتابة قبل موته، وقبول الموصى له.
والوصية أيها -المؤمنون- أنواع: الوصية بالدين، والوصية بالمال، والوصية على الأهل، والوصية على الأولاد، والوصية على الأيتام، والوصية على الأموال، والوصية على الإنفاق، وأعظمها الوصية بالدِّين وتقوى الله -عز وجل-، قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)[النساء: 131]، وَعَنْ طَلْحَة بن مُصَرِّفٍ قَالَ: "سَألْتُ عَبْدَالله بْنَ أبِي أوْفَى -رَضيَ اللهُ عَنهُ-، هَلْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أوْصَى؟ فَقال: لا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الوَصِيَّةُ، أوْ أُمِرُوا بِالوَصِيَّةِ، قال: أوْصَى بِكِتَابِ الله"(رواه البخاري ومسلم).
عباد الله: فإذا كانت الوصية لا تصح إلا بشروط فكذا فإنها تبطل بأمور ثلاثة: موت الموصَى له، وقتل الموصِي من قبل الموصَى له، وتلف الموصَى به. والوصية أيها -الأخوة الكرام- سنة الأنبياء ودأب الأولياء؛ فقد كانوا يوصون أهليهم بالتوحيد والهدى والاستقامة، كما سبق في ذكر وصية يعقوب -عليه السلام- لأبنائه عندما حضره الموت، وكذلك وصية إمام المرسلين نبينا -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: " كان آخر كلام رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الصلاة الصلاة! اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم" (رواه أحمد)، واستوصى-عليه الصلاة والسلام- بالأنصار وبالنساء.
وهكذا سار السلف الكرام على هداهم؛ فكانوا يوصون كما جاء عن أنس -رضي الله عنه-: "هذا ما أوصى به فلان بن فلان، أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور". وروي أن الصديق -رضي الله عنه- لما حضرته الوفاة بعث إلى عمر -رضي الله عنه-، فدعاه ليوصيه؛ فلما حضر قال: اعلم أن لله -عز وجل- في النهار حقا لا يقبله في الليل، واعلم أن لله -عز وجل- في الليل حقا لا يقبله في النهار، واعلم أنه لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، واعلم أن الله -عز وجل- ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، فيقول القائل: "أين يقع عملي من عمل هؤلاء ؟ وذلك أن الله -عز وجل- تجاوز عن السيء من أعمالهم فلم يثربه، واعلم أن الله -عز وجل- ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم، ويقول قائل: أنا خير من هؤلاء عملا، وذلك أن الله -عز وجل- رد عليهم أحسن أعمالهم فلم يقبله، واعلم أن الله -عز وجل- أنزل آية الرخاء عند آية الشدة، وآية الشدة عند آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا، لئلا يلقي بيده إلى التهلكة ، ولا يتمنى على الله إلا الحق، واعلم أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقل ذلك عليهم، واعلم أنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفة ذلك عليهم؛ فإن أنت قبلت وصيتي هذه؛ فلا يكون شيء أحب إليك من الموت -ولا بد من لقائه- وإن أنت ضيعت وصيتي هذه؛ فلا يكونن شيء أكثر بغضا إليك من الموت ولست بمعجزه".
وعن العلاء بن الفضل، عن أبيه قال: "لما قتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فتشوا خزائنه؛ فوجدوا فيها صندوقا مقفلا؛ ففتحوه؛ فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها: هذه وصية عثمان بن عفان: "بسم الله الرحمن الرحيم عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيا، وعليها يموت، وعليها يبعث، إن شاء الله -عز وجل-".
وذكروا عن علي -رضي الله عنه- أنه: "لما ضرب تلك الضربة قال: ما فعل ضاربي ؟ قالوا: قد أخذناه، قال: أطعموه من طعامي، واسقوه من شرابي؛ فإن أنا عشت رأيت فيه رأيي، وإن أنا مت فاضربوه ضربة واحدة، لا تزيدوه عليها، ثم أوصى الحسن -رضي الله عنه- أن يغسله، ولا يغالي في الكفن؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تغلوا في الكفن؛ فإنه يسلب سلبا سريعا، وامشوا بي بين المشيتين، لا تسرعوا بي، ولا تبطئوا؛ فإن كان خيرا عجلتموني إليه، وإن كان شرا ألقيتموني عن أكتافكم". وختاما: حاولنا -أيها الكرام- أن يحتوي هذا الملف العلمي على معنى الوصية ومشروعيتها وأنواعها ونماذج من حال السلف معها من خلال جمع الكتب والمقالات والدراسات والبحوث المدعمة بالآثار والفتاوى والأحكام المتعلقة بالوصي من خلال المحاور التالية:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم