الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
قوله: يُسنُّ لمن ترك خيرًا، وهو المال الكثير عُرفًا، أن يُوصِي بالخُمُس، ولا تجوز بأكثر من الثُّلُث إلى آخره.
قال في الإفصاح: وأجمعوا على أن الوصية غير واجبة لمن ليست عنده أمانة يجب عليه الخروج منها، ولا عليه دَين لا يعلم به مَن هو له، وليست عنده وديعة بغير إشهاد.
وأجمعوا على أن من كانت ذِمَّته متعلِّقة بهذه الأشياء أو بأحدها؛ فإن الوصية بها واجبة عليه فرضًا.
وأجمعوا على أنها مُسْتَحبة مندوب إليها لمن لا يرث الموصي من أقاربه وذوي رحمه.
وأجمعوا على أن الوصية بالثُّلُث لغير وارث جائزة، وأنها لا تفتقر إلى إجازة الورثة.
وأجمعوا على أن ما زاد على الثُّلُث إذا أَوصى به مَن تَركَ بنين أو عصبة، أنه لا يَنْفذ إلا الثُّلُث، وأن الباقي موقوف على إجازة الورثة؛ فإن أجازوه نَفَذ، وإن أبطلوه لم يَنْفَذ.
وأجمعوا على أن لزوم العمل بالوصية إنما هو بعد الموت.
وأجمعوا على أنه يُستحبُّ للموصي أن يوصي بدون الثُّلُث مع إجازتهم له الوصية به إلى أن قال: واتفقوا على أن عطايا المريض وهباته من الثُّلُث.
واختلفوا فيما إذا أوصى بجميع ماله ولا وارث له:
فقال أبو حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين: الوصية صحيحة.
وقال مالك في إحدى روايتيه، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى: لا يصح منها إلا الثُّلُث.
واختلفوا في الصبي المُمَيَّز، هل تصح وصيته؟
فقال أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه: لا تصح.
وقال مالك والشافعي- في القول الآخر - وأحمد: يصح إذا وافق الحق.
واختلفوا فيما إذا اعتقل لسان المريض؛ فهل تصح وصيته بالإشارة أم لا؟
فقال أبو حنيفة: لا تصح.
وقال الشافعي: تصح.
وقد ذكر الطَّحاوي أنَّ الظاهر من مذهب مالك: جواز ذلك.
واختلفوا فيما إذا كتب وصيته بخطه، ويعلم أنه خطه، ولم يشهد فيها؛ هل يحكم بها كما لو أشهد عليه بها؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا يحكم بها.
وقال أحمد: "من كتب وصيته بخطه ولم يشهد فيها، حكم بها ما لم يعلم رجوعه عنها".
وقال في المقنع: "والوصية مُسْتحبة لمن ترك خَيرًا، وهو المال الكثير".
قال في الحاشية: هذا المذهب؛ فأما الفقير الذي له ورثة محتاجون، فلا يُسْتحب أن يوصي؛ لأن الله تعالى قال: (تَرَكَ خَيْرًا) [البقرة: 180].
قال المُصَنِّف: الذي يَقْوى عندي أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لا تُسْتَحب الوصية.
واختلف أهل العلم في القدر الذي لا تستحب الوصية لمالكه:
فرُوي عن أحمد: إذا تَرَك دون الألف لا تُسْتحب الوصية، جزم به أبو الخطاب وصاحب الوجيز وغيرهما.
وقيل: هو من له أكثر من ثلاثة آلاف.
رُوي عن عائشة أن رجلاً قال لها: لي ثلاثة آلاف درهم، وأربعة أولاد؛ أَفأوْصِي؟ فقالت: "اجعل الثلاثة للأربعة".
وقال البخاري: باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكفَّفوا الناس.
وذكر حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.
قال الحافظ: "هكذا اقتصر على لفظ الحديث فَتَرْجم به، ولعله أشار إلى من لم يكن له من المال إلا القليل لم تُنْدب له الوصية إلى أن قال: وفيه أن من ترك مالاً قليلاً فالاختيار له ترك الوصية، وإبقاء المال للورثة".
وقال البخاري -أيضًا-: باب: الوصية بالثلث.
وقال الحسن: لا يجوز للذمي وصية إلا بالثُّلُث، وقال الله -عز وجل-: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) [المائدة: 49].
وذكر حديث ابن عباس: "و غَضّ الناس إلى الرُّبع".
قال الحافظ: قوله: (باب: الوصية بالثلث)، أي: جوازها أو مشروعيتها، واستقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث، لكن اختلف في من كان له وارث، وسيأتي تحريره في باب: لا وصية لوارث، وفي من لم يكن له وارث خاص؛ فمنعه الجمهور، وجوزه الحنفية، وإسحاق وشريك وأحمد في رواية، وهو قول علي وابن مسعود.
واختلفوا -أيضًا-: هل يعتبر ثُلُث المال حال الوصية أو حال الموت؟ على قولين، وهما وجهان للشافعية، أصحهما الثاني".
واختلفوا -أيضًا- هل يحسب الثُّلُث من جميع المال، أو تنفذ بما علمه الموصي دون ما خفي عليه، أو تجدد له، ولم يعلم به؟ وبالأول قال الجمهور".
فائدة: أول من أوصى بالثُّلُث في الإسلام البراء بن معرور، أوصى به للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان قد مات قبل أن يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة بشهر، فقَبِله النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وردَّه على ورثته، أخرجه الحاكم وابن المنذر".
إلى أن قال: وكأن البخاري قصد الإشارة إلى أن النقص من الثُّلُث في حديث ابن عباس للاستحباب لا للمنع منه؛ جمعًا بين الحديثين انتهى ملخصًا.
وقال البخاري -أيضًا-: باب: لا وصية لوارث.
وذكر حديثَ ابن عباس -رضي الله عنه- ما، قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنَسَخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السُّدس، وجعل للمرأة الثُّمن والربع، وللزوج الشطر والربع".
قال الحافظ: قوله: (باب: لا وصية لوارث).
هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع كأنه لم يثبت على شرط البخاري، فترجم به كعادته، واستغنى بما يعطي حكمه، وقد أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي أمامة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته في حجة الوداع: "إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه؛ فلا وصية لوارث".
إلى أن قال: وروى الدارقطني من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا: "لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة".
وقال البخاري -أيضًا-: باب: الصدقة عند الموت.
وذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجلٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح حريص، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان".
قال الحافظ: قوله: (باب الصدقة عند الموت)، أي: جوازها وإن كانت في حال الصحة أفضل... إلى أن قال: وفي الحديث أن تنجيز وفاء الدين، والتصدق في الحياة وفي الصحة أفضل منه بعد الموت وفي المرض، وأشار -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بقوله: (وأنت صحيح حريص تأمل الغنى...) إلى آخره؛ لأنه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبًا؛ لما يخوفه به الشيطان، ويزين له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال، كما قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) [البقرة: 268].
و-أيضًا- فإن الشيطان ربما زَيَّن له الحَيْف في الوصية أو الرجوع عن الوصية، فيتمحض تفضيل الصدقة الناجزة.
قال بعض السلف عن بعض أهل التَّرَف: يعصون الله في أموالهم مرتين، يبخلون بها وهي في أيديهم - يعني: في الحياة - ويسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم، يعني: بعد الموت.
وأخرج الترمذي بإسناد حسن، وصحَّحه ابن حبان، عن أبي الدرداء مرفوعًا قال: "مثل الذي يَعْتق ويَتَصدق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع"، وهو يرجع إلى معنى حديث الباب.
وروى أبو داود، وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمئة".
[1] الروض المربع ص346.
[2] فتح القدير 8/ 418، وحاشية ابن عابدين 6/ 691- 693، والشرح الصغير 2/ 465، وشرح مختصر خليل للخرشي 8/ 168، وتحفة المحتاج 7/ 3- 4، ونهاية المحتاج 6/ 40- 41، وشرح منتهى الإرادات 4/ 443، وكشاف القناع 10/ 199.
[3] فتح القدير 8/ 418، وحاشية ابن عابدين 6/ 692، والشرح الصغير 2/ 465، وشرح مختصر خليل للخرشي 8/ 168، وتحفة المحتاج 7/ 3- 4، ونهاية المحتاج 6/ 40- 41، وشرح منتهى الإرادات 4/ 444- 445، وكشاف القناع 10/ 199.
[4] فتح القدير 8/ 418- 419، وحاشية ابن عابدين 6/ 692- 693، والشرح الصغير 2/ 465، وشرح مختصر خليل للخرشي 8/ 168، وتحفة المحتاج 7/ 3- 4، ونهاية المحتاج 6/ 40- 41، وشرح منتهى الإرادات 4/ 443، وكشاف القناع 10/ 204- 208.
[5] فتح القدير 8/ 419، وحاشية ابن عابدين 6/ 695، والشرح الصغير 2/ 467، وحاشية الدسوقي 4/ 427، وتحفة المحتاج 7/ 21، ونهاية المحتاج 6/ 54، وشرح منتهى الإرادات 4/ 445، وكشاف القناع 10/ 210.
[6] فتح القدير 8/ 420- 421، وحاشية ابن عابدين 6/ 695، والشرح الصغير 2/ 467، وحاشية الدسوقي 4/ 427، وتحفة المحتاج 7/ 21- 22، ونهاية المحتاج 6/ 54، وشرح منتهى الإرادات 4/ 445، وكشاف القناع 10/ 210- 211.
[7] فتح القدير 8/ 430، وحاشية ابن عابدين 6/ 702، والشرح الصغير 2/ 466، وحاشية الدسوقي 4/ 427، وتحفة المحتاج 7/ 22- 23، ونهاية المحتاج 6/ 54- 55، وشرح منتهى الإرادات 4/ 449، وكشاف القناع 10/ 218.
[8] فتح القدير 8/ 430، وحاشية ابن عابدين 6/ 696، والمنتقى شرح الموطأ 6/ 145- 146، وتحفة المحتاج 7/ 21، ونهاية المحتاج 6/ 54، وشرح منتهى الإرادات 4/ 443، وكشاف القناع 10/ 204- 205.
[9] الإفصاح 3/ 22- 24.
[10] فتح القدير 8/ 461- 462، وحاشية ابن عابدين 6/ 705- 706، والشرح الصغير 2/ 67، وحاشية الدسوقي 4/ 81، وتحفة المحتاج 7/ 21- 24، ونهاية المحتاج 6/ 55- 56، وشرح منتهى الإرادات 4/ 409- 410، وكشاف القناع 10/ 172- 175.
[11] المبسوط 30/ 43، وفتح القدير 8/ 417.
[12] شرح منتهى الإرادات 4/ 444، وكشاف القناع 10/ 209.
[13] المنتقى شرح الموطأ 6/ 156- 157.
[14] المهذب 1/ 588.
[15] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 17/ 216- 217.
[16] الإفصاح 3/ 26- 27.
[17] فتح القدير 8/ 432- 433، وحاشية ابن عابدين 6/ 693.
[18] تحفة المحتاج 7/ 4، ونهاية المحتاج 6/ 41.
[19] الشرح الصغير 2/ 465، وحاشية الدسوقي 4/ 422- 423.
[20] تحفة المحتاج 7/ 4، ونهاية المحتاج 6/ 41- 42.
[21] شرح منتهى الإرادات 4/ 441، وكشاف القناع 10/ 201.
[22] الإفصاح 3/ 31.
[23] فتح القدير 8/ 511، وحاشية ابن عابدين 6/ 788- 789.
[24] شرح منتهى الإرادات 4/ 441، وكشاف القناع 10/ 201.
[25] تحفة المحتاج 7/ 36، ونهاية المحتاج 6/ 65.
[26] الشرح الصغير 2/ 466- 467، وحاشية الدسوقي 4/ 423- 424.
[27] الإفصاح 3/ 34.
[28] الشرح الصغير 2/ 473، وحاشية الدسوقي 4/ 449- 450.
[29] انظر: بدائع الصنائع 6/ 273.
[30] تحفة المحتاج 7/ 35- 36، ونهاية المحتاج 6/ 64- 65.
[31] شرح منتهى الإرادات 4/ 441- 442، وكشاف القناع 10/ 201- 202.
[32] الإفصاح 3/ 41- 42.
[33] المقنع 2/ 357.
[34] شرح منتهى الإرادات 4/ 443، وكشاف القناع 10/ 204.
[35] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 17/ 209- 210.
[36] التمهيد لابن عبد البر 14/ 296.
[37] حاشية المقنع 2/ 357، وانظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 17/ 209- 210.
[38] البخاري 2742.
[39] فتح الباري 5/ 363 و369.
[40] البخاري 2743.
[41] فتح القدير 8/ 420- 421، وحاشية ابن عابدين 6/ 695، والشرح الصغير 2/ 467، وحاشية الدسوقي 4/ 427، وتحفة المحتاج 7/ 21- 22، ونهاية المحتاج 6/ 54، وشرح منتهى الإرادات 4/ 445، وكشاف القناع 10/ 210- 211.
[42] المنتقى شرح الموطأ 6/ 156- 157، والمهذب 1/ 588.
[43] المبسوط 30/ 43، وفتح القدير 8/ 417.
[44] شرح منتهى الإرادات 4/ 444، وكشاف القناع 10/ 209.
[45] تحفة المحتاج 7/ 22- 23، ونهاية المحتاج 6/ 55.
[46] فتح القدير 8/ 430، وحاشية ابن عابدين 6/ 702- 704، والشرح الصغير 2/ 466، وحاشية الدسوقي 4/ 427، وتحفة المحتاج 7/ 22- 23، ونهاية المحتاج 6/ 54- 55، وشرح منتهى الإرادات 4/ 449، وكشاف القناع 10/ 218.
[47] الحاكم 1/ 505. وأخرجه -أيضًا- البيهقي 3/ 384.
قال الحاكم: صحيح.
[48] فتح الباري 5/ 369- 371.
[49] البخاري 2747.
[50] أبو داود 2870، والترمذي 2120.
قال الترمذي: حسن صحيح.
[51] الدارقطني 4/ 98.
قال ابن حجر في الفتح 5/ 372: رجاله ثقات، إلا أنه معلول فقد قيل: إن عطاء هو الخراساني، والله أعلم.
[52] فتح الباري 5/ 372.
[53] البخاري 2748.
[54] الترمذي 2123، وابن حبان 8/ 126 3336.
[55] أبو داود 2866، وابن حبان 8/ 125 3334.
قال المنذري في مختصر السنن 4/ 149: في إسناده شرحبيل بن سعد الأنصاري ولا يُحتج بحديثه.
[56] فتح الباري 5/ 374.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم