اقتباس
...فأما المؤمن فإنه إذا أصابه الوباء صابر محتسب يكفر الله عنه به سيئاته: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه"، وإن مات به فإنه يموت شهيدًا، ففي الصحيحين: "الطاعون شهادة لكل مسلم"، فهذا حال المؤمن الطائع مع الطاعون؛ مرضه تكفير، وموته شهادة...
سبحان الله! إن كل بلاء ومصيبة وبلية أصلها وأساسها ذنب ومعصية... ومن جملة ذلك الوباء والطاعون؛ فإن أصل الطاعون وبداية نزوله في الأرض كان بسبب أمة من الأمم عصت ربها وعتت عن أمره، فأنزل الله -تعالى- عليها رجزًا ونقمة وعذابًا فأهلكها، فلما هلكت بذلك العذاب لم يُرفع الرجز من الأرض كلية، بل بقي منه شيء على الأرض يظهر وينتشر ويُهلك الله به من يشاء حينًا، ثم يختفي حينًا آخر إذا شاء الله... والأمر هكذا إلى يوم القيامة، فهذا أسامة بن زيد يحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر الوجع (يعني: الطاعون؛ كما في الروايات الأخرى) فقال: "رجز، أو عذاب، عذب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقية، فيذهب المرة ويأتي الأخرى"(رواه البخاري ومسلم)، وهكذا هي الذنوب والمعاصي.
وكلمة: "الوباء" أعم من كلمة: "الطاعون"، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعون؛ فالطاعون مرض مخصوص بعينه، "فهو قروح تخرج في الجسد، فتكون في المرافق أو الآباط أو الأيدي أو الأصابع وسائر البدن، ويكون معه ورم وألم شديد، وتخرج تلك القروح مع لهيب، ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان القلب والقيء"(شرح النووي على صحيح مسلم)، أما الوباء فهو أعم من ذلك؛ فهو عموم الأمراض، بمعنى أن "يمرض الكثير من الناس في جهة من الأرض دون سائر الجهات، ويكون مخالفًا للمعتاد من أمراض في الكثرة وغيرها، ويكون مرضهم نوعًا واحدًا"(فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، بتصرف قليل)، سواء كان غدة كالطاعون أو غير ذلك من الأمراض.
وإذا نزل الوباء بأرض فإن الناس معه على أحوال، فمؤمن وكافر، ومأجور ومأزور... فأما المؤمن فإنه إذا أصابه الوباء صابر محتسب يكفر الله عنه به سيئاته؛ فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه"(رواه البخاري ومسلم)، وإن مات به فإنه يموت شهيدًا، فعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطاعون شهادة لكل مسلم"(متفق عليه)... فهذا حال المؤمن الطائع مع الطاعون؛ مرضه تكفير، وموته شهادة. وأما الكافر، فإن حاله بؤس وضنك وشقاء وضيعة، يأتيه الوباء فيقطعه عن جنته التي هي دنياه؛ كما قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-: "الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر"(رواه مسلم)، فتضيق عليه الأرض والسماء، ويلفظه البر والبحر والفضاء، ويعلوه الكرب ويكسوه الهم ويسربله العناء، تمطر عليه سحائب الجزع والهلع، فيدعو بويله وثبوره وهلاكه وبواره...
هذا، ويحرم على من وقع الطاعون ببلد وهو فيها أن يخرج منها فرارًا منه، فعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي -صلى الله عليه وسلـم- قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه"(متفق عليه)، وقد رتب الإسلام على من حبس نفسه في بلد تفشى فيها الطاعون -الذي وقع وهو فيها- ابتغاء مرضات الله أجرًا عظيمًا، فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون، فأخبرني: "أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد"(رواه البخاري).
وما مَنْعُ الإسلام له من الخروج وكذلك منع غيره أن يدخلوا بلدًا وقع فيها الوباء، إلا لئلا ينتشر الوباء وينتقل إلى الأصحاء، وهو ما يعرف في زماننا بالحجر الصحي... وفي علمي أن أول من طبق ذلك من الجموع الغفيرة هو جيش من الصحابة والتابعين قائده الفاروق عمر -رضي الله عنـه- فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج إلى الشأم، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد؛ أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبًا في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" قال: فحمد الله عمر ثم انصرف.(متفق عليه).
وإذا ذُكر الطاعون والوباء تبادرت إلى الذهن أسئلة كثيرة: هل من خبر عن طواعين وأوبئة وقعت فيما مضى؟ وهل مكة محفوظة من الطاعون كالمدينة المنورة؟ وهل المدينة مصونة من الطاعون وحده أم من الوباء كذلك؟ وهل الوباء عقوبة أم ابتلاء؟ وما أسباب نزوله؟ وما هي تعاليم الإسلام فيما يخص الوباء؟ وهل الوباء شر محض أم فيه خير؟... وللإجابة عن كل هذه الأسئلة وغيرها عقدنا هذا الملف العلمي الذي تتنوع مواده ما بين خطبة محبوكة وكتاب مؤلف ومقالة مكتوبة وفتوى مؤصلة ومحاضرة مرئية أو مسموعة... ولقد رتبنا هذا كله في محاور خمس كما سيأتي، فلعل الله -عز وجل- ينفع به من طالعه واستعرضه وخاض في غماره... والله من وراء القصد
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم