عناصر الخطبة
1/ الابتلاء سنة كونية 2/ موقف المؤمن عند الابتلاء 3/ الإيمان قول وعمل 4/ ثقة المؤمن بربه 5/ المعينات على الصبر على البلاءاقتباس
أما ضعيف الإيمان، ذلك الإنسان الجزوع، المتردد الخائف فإن ضعف إيمانه ويقينه، يُنفّره من الصبر أمام الابتلاءات، ويضيق عليه المسالك إذا نزلت به نازلة، أو حلت به كارثة، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتجعل الخروج، وتعجل الخروج فيما دخل، متعلقاً بما ..
أما بعد: إن من سنة الله تعالى في عباده المؤمنين أن يبتليهم جل وتعالى، ابتلاءً يقوى بقوة الإيمان، ويضعف بضعفه، يقول رسول الله ص في الحديث الصحيح: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء".
إنه ما من أحد في هذه الدنيا إلا وهو مُبتلى، إما بمصائب وبلايا، وإما بمحن ورزايا، وإما بآلام تضيق بها النفوس، أو بمزعجات تورث الخوف والجزع، فكم ترى في الدنيا من شاكٍ، وكم تسمع من لواّم، وآخر يشكو علة وسقمًا، ورابع، يشكو حاجة وفقرًا، وهذا متبرم من زوجة وأولاده، وذاك لواّم لأهله وعشيرته وذا قد كسدت تجارته وبارت صناعته. وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه، وهكذا.
لكن المؤمن من بين كل هؤلاء، ذلك الذي قد توجه بكليته إلى ربه، وضع أمامه هدفاً سامياً يسعى لتحقيقه، هذا المؤمن ابتلاءه يختلف عن غيره، فليس ابتلاؤه ابتلاء إهانة وتعذيب، لكنه ابتلاء تمحيص وتهذيب، ابتلاء تربية وتقويم: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 141].
إن هذا الصنف من المؤمنين، ممن جعلوا غايتهم رضا الله، رب العالمين، قد وطّنوا أنفسهم على احتمال المكاره، ومواجهة الأعباء، مهما ثقلت إنهم قد أحسنوا ظنهم بربهم، وأمّلوا فيه جميل العواقب وكريم العوائد، كل ذلك بقلب لا تشوبه ريبة، ونفس لا يزعزعها كربة، مستيقنين، معتقدين، اعتقاداً جازماً بأن بوادر الصفو والفرح لابد آتية. كاستيقانهم بأن غداً بعد اليوم، (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: 186].
إن هؤلاء المؤمنين يعلمون بأن الإيمان ليس مجرد دعوى أو أمنية فحسب، لكنهم يعلمون بأنها حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد وصبر وتحمل لا يحملها إلا من في قلوبهم تجرد وإخلاص. إنهم يعلمون بأن أثقال الحياة، وصعوبة الطريق، ووعورة المسار، لا يطيق حملها الضعاف المهازيل، لا ينهض بأعبائها إلا العمالة الصابرون، أولو العزم من الناس، أصحاب الهمم العالية. إنه لا يكفي أن يقول الناس آمنا ويتركوا لهذه الدعوى، حتى لا يتعرضوا للفتنة فيثبتوا لها ويخرجوا منها، صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم.
أيها المسلمون: إن عبء الإيمان لكبير، وإن تكاليفه لشاقة إلا على النفوس المؤمنة بالله، إيماناً راسخاً، والمتقبلة لتكاليفه بطواعيه، والراغبة فيما عند الله وما وعد به المؤمنين من نصر وعز في الدنيا، وثواب مضاعف في الآخرة، قال الله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45].
نعم، إن عبء الإيمان شاق وكبير. ولكنه سهل ويسير على من يسّره الله عليه إنها سهلة على تلك النفوس التي تعرف أن العبء عندما يكون كبيراً، يكون جزاؤه ومثوبته أكبر وأجل عند الله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30- 32].
إنه لا غرابة، فكلما عظم الثمن المقدم، عظم المثمن المستوفى، فالشهيد الذي قدم نفسه، وباع حياته لله، عوّضه الله بدلاً من هذه الحياة، بحياة أفضل ونعيم أكمل. كم من محنة، تحمل في طياتها منح ورحمات، وكم من بلية، يكون بعدها فرج وكرامات، إن المؤمن الواثق بربه، لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان، إن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد، بل يقف أمام كل عاصفة بيقين أرسى من الجبال، وعلم بالله لا يرقى إليه شك.
أما ضعيف الإيمان، ذلك الإنسان الجزوع، المتردد الخائف فإن ضعف إيمانه ويقينه، يُنفّره من الصبر أمام الابتلاءات، ويضيق عليه المسالك إذا نزلت به نازلة، أو حلت به كارثة، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتجعل الخروج، وتعجل الخروج فيما دخل، متعلقاً بما يضره ولا ينفعه.
إنه لو استشعر قول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الروم: 40] استشعاراً حقيقياً، وأيقن بأن الخلق والرزق والإحياء والإماتة كله بيد الله، ما خاف من أي مخلوق مهما بلغ من عز أو منزلة، لأنه لا أحد يستطيع قطع رزق أو رد مقدور أو انتقاص أجل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الروم: 40] إن من فقد الثقة بربه، اضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه، وضاقت عليه المسالك، وعجز عن تحمل الشدائد.
أما أمر المؤمن، فكله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن، بهذا صح الخبر عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
فيا أيها الأخ المؤمن: إنك وأمثالك من المؤمنين، في هذه الحياة، معرّضون لألوان من الابتلاء، بخير أو بشر، بخير كالمال والصحة والولاية، وبشر كالمرض والآفات وتسلط الأعداء، أما ابتلاء الخير ليرى هل تؤدي حق الله فيما أعطيت من مال بأداء ما أوجب الله عليك فيه.
وهل قَصَرْت النفس حال الصحة على المأمورات وكبحت جماحها عن ارتكاب المنكرات. وهل أديت حق الله فيما استُخلفت عليه من مصالح المسلمين قال الله تعالى: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 129] وقال عز وجل: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41] هذا شيء من صور وألوان ابتلاء الخير.
أما ابتلاء الشر، فكما قلت ليس لإهانة أو تعذيب، لكن لتقوية الإيمان وحصول على المثوبة بالصبر على البلاء. كما حصل لنبي الله أيوب عليه السلام من الابتداء بالمرض الذي بلغ به أن تخلى عنه جميع أهله.. وكما حصل لأبينا إبراهيم عليه السلام من تسلط قومه عليه، وإلقائهم إياه في النار.
وكما حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأذى والمضايقة والتآمر ضده تلك المؤامرة التي فضحها القرآن في قوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
فماذا كان بعد ذلك؟ ماذا كان؟ أما أيوب عليه السلام، فكشف الله ضره وأتاه أهله ومثلهم معه رحمة من الله وذكرى لأولي الألباب، وأما إبراهيم عليه السلام فإن الله تعالى قال للنار التي أُججت لإحراقه: (كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69] وجعله أمة يقتدى به (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 120] بل وجعل له لسان صدق في الآخرين.
وأما نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد نجاه الله تبارك وتعالى، وأفلته من تلكم المؤامرة الدنيئة، وخرج من مكة مختفياً مطارداً، ثم يعود إليها بعد بضع سنوات، تعد قليلة في عمر الزمن، يعود ليطل على مكة من أعلى طريق فيها، فاتحاً لها، بل عاد ص ليطل لا على مكة وحدها، بل ليطل على الدنيا كلها، وعلى هذه الأمة جميعها، يوجهها إلى رب واحد، وقبلة واحدة، وقيادة واحدة، ويصبح هو إمامها وقائدها المبلغ عن الله إلى يوم القيامة. بل وفرطها على الحوض وشفيعها عند الله، وفاتح باب الجنة لها.
أيها الأحبة في الله أيها المؤمنون المبتلون شئتم أم أبيتم: اتقوا الله تعالى، اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم الذي جاء من عند الله واصبروا على ما قد تبتلون به، وما كلفتم به من الله، وأدوا حق الله فيما أعطاكم وفيما حملكم من أمانة، ولا يطغينكم عزٌ أو رخاءٌ أو صحة أو ثراء، ولا يضعفنكم الشدائد والأحداث والمصائب والمضايقات فما هي إلا برهة من الزمن قليل ثم يأتي فرج الله ونصره ومثوبته لمن قام بأمره، وإن استغرق ذلك وقت الدنيا كلها فإنها لا شيء في حساب وعمر الآخرة. كما جاء وحصل لأيوب وإبراهيم ومحمد عليهم السلام ولأتباعهم ممن ابتلوا وأُوذوا في الله، وستكون العقبى لأتباعهم كما كان لهم من قبل: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5- 6] وقال سبحانه: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7].
أقول هذا القول، وأسأل الله تعالى أن يثبت أقدامنا وينصرنا على القوم الكافرين.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: قال الله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له حفرة في الأرض فيُجعل فيها فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
إن الدنيا من مبتدئها إلى منتهاها دار ابتلاء، وغاية وجود المؤمن فيها إرضاء الله تبارك وتعالى، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وعلى مثل هذا فلينافس المتنافسون.
فالمسلم لا يحزن لدنيا ولا تذهب نفسه حسرات ولا يستسلم إذا رأى من على غير الجادة هم أهل صولة وجولة في الدنيا، في الوقت الذي يرى فيه إخوانه المؤمنون، قلة في العدد والعدة والمال، فإن كل هذا من الابتلاء.
وإن مما يزيد طمأنينة المؤمن ويقوّي صبره إذا علم هذه النقاط الست:
1- أن الابتلاء فيه تكفير للسيئات: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه". متفق عليه.
2- رفع المنزلة والدرجة عند الله تعالى، المؤمن إذا ابتلاه الله فصبر على بلواه، لا تكفر عنه سيئاته فحسب، بل يجزل الله له أيضاً في الثواب ويرفع مكانته عند الناس وفي الجنة.
3- المكافأة في الدنيا، وذلك بأن يعوّضهم الله ما فقدوه، ومن هذا القبيل ما حدث لأيوب عليه السلام.
4- إخلاص النفوس لله، فإن الابتلاء من شأنه أن ينقّي النفوس من الشوائب، والقلوب من الرياء، والعمل من الشرك، ويوجهها نحو الإخلاص.
5- إظهار الناس على حقيقتهم. فمن الناس من يدعي الصبر وليس بصابر، ويدعي الزهد وليس بزاهد، فإن الابتلاء لا تطيقها كل النفوس. ومن هنا كان الابتلاء لتمييز أصحاب الهمم العالية والنفوس القويمة والعزائم الفتية المؤمنة، من أصحاب الهمم الضعيفة والنفوس الساقطة والعزائم الخائرة.
6- الإقتداء بالصابرين: وفي هذا حافز للمؤمن أن يصبر ويصابر ويتحمل كما صبر أولئك الصابرون المؤمنون، فينال ما نالوا من الرضا والقبول والنعيم المقيم في الآخرة والعزة في الدنيا.
اللهم آمنا في أوطاننا.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا ولُمّ بها شعثنا، ورُد بها الفتن عنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم