الشيخ أحمد الزومان
تعريف الطاعون والوباء:
تعريف الطاعون: الطاعون قروح تخرج في المغابن والمرافق، ثم تعم البدن ويحصل معه خفقان القلب[1].
تعريف الوباء:
لغة: الوباء بالمد والقصر مرض عام وجمع الممدود أوبية وجمع المقصور أوباء[2].
اصطلاحًا: الوباء اسم لكل مرض عام[3].
فلا فرق بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، فالوباء مرض عام يصيب الكثير من الناس في جهة من الأرض دون سائر الجهات، ويكون مخالفًا للمعتاد من الأمراض في الكثرة وغيرها، ويكون نوعًا واحدًا[4].
قال الحافظ ابن حجر: تسمية الطاعون وباءً لا يلزم منه أنَّ كل وباء طاعون، بل يدل على عكسه، وهو أنَّ كل طاعون وباءً، لكن لما كان الوباء ينشأ عنه كثرة الموت، وكان الطاعون أيضًا كذلك، أُطلق عليه اسمه[5].
حكم القنوت للوباء والطاعون:
اختلف أهل العلم في القنوت للوباء والطاعون على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يقنت للوباء والطاعون: قال به بعض الأحناف[6] وهو مذهب الشافعية[7]، وظاهر مذهب الحنابلة [8].
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدمنا المدينة وهي وبيئة، فاشتكى أبو بكر رضي الله عنه، واشتكى بلال رضي الله عنه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى أصحابه رضي الله عنه، قال: «اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَحَوِّلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ»[9].
وجه الاستدلال: دعاءُ النبي صلى الله عليه وسلم جعلوه من قنوت النازلة [10].
الرد: ليس الخلاف في مطلق الدعاء إنَّما القنوت في الصلاة.
الدليل الثاني: عن ابن عمر أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر، يقول: «اللَّهُمَّ العَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا، بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ»، فأنزل الله: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128][11].
وجه الاستدلال: قنت النبي صلى الله عليه وسلم على العدو فيقاس عليه الوباء[12].
الرد: العدو آدمي صائل بخلاف الوباء.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ، لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلَا الدَّجَّالُ»[13].
وجه الاستدلال: إذا كان منع الطاعون وهو وباء قبل وقوعه محمودًا، فكذلك يعمل على رفعه بعد وقوعه، ومن ذلك القنوت في الصلاة فهو مظنة الإجابة.
الدليل الرابع: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ، وَلَا سِحْرٌ»[14].
وجه الاستدلال: يشرع للشخص أن يبذل الأسباب لمنع وقوع المرض، وحفظ النفس من الموت، فكذلك حفظ النفوس بعد وقوع الوباء العام، ومن ذلك القنوت في الصلاة.
الرد: تقدم أنَّ الخلاف في القنوت في الصلاة لا مطلق الدعاء.
الدليل الخامس: من النوازل العظام لما فيه من موت غالب المسلمين، وتعطُّل كثير من معايشهم، فضرره أعظم من ضرر مقتل القراء، ومن منع مستضعفي مكة من الهجرة[15].
الدليل السادس: يفني العلماء والصالحين حتى يختل نظام الدين، ففي رفعه مصلحة عامة[16].
الرد: كالذي قبله.
الدليل السابع: الوباء إن لم يكن نازلة، فهو شبيه بالنازلة فيقنت له[17].
الرد: العبادات توقيفية، فلا قياس فيها.
الجواب: أهل العلم مجمعون إجماعًا عمليًّا على القياس في العبادات، فيلحقون عبادة لم يرد فيها نص بعبادة ورد فيها نص، لجامع بينهما كشروط الإجزاء في الهدي والعقيقة قياسًا على الأضحية.
القول الثاني: يقنت للوباء دون الطاعون: قول لبعض الأحناف[18] وبعض الشافعية[19].
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[20].
وجه الاستدلال: الطاعون شهادة فلا يقنت لرفعه[21].
الرد: كون من مات بالطاعون شهيدًا لا يمنع كونه نازلة يُقنت له، كما يقنت عند نازلة العدو والشهادة حاصلة لمن قُتِل من المسلمين[22].
الدليل الثاني: قال محمد بن مفلح: لم يثبت القنوت في طاعون عمواس، ولا في غيره[23].
الرد من وجوه:
الأول: عدم نقله عن السلف لا يلزم منه عدم الوقوع[24].
الجواب: الظاهر أنَّهم لو قنتوا لنقل لنا كما نقلت لنا صلاتهم عند الآيات.
الثاني: على تسليم عدم قنوتهم فيحتمل أنَّهم تركوه إيثارًا لطلب الشهادة[25].
الثالث: القنوت ليس واجبًا حتى يقال: تركه يدل على عدم مشروعيته.
القول الثالث: لا يقنت للوباء ولا للطاعون: قول للحنابلة[26] وقول لبعض الأحناف[27].
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[28].
الدليل الثاني: عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صَلُّوا كَما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» [29].
وجه الاستدلال: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم القنوت للوباء والطاعون لا بقوله ولا بفعله، وقد أمرنا بمتابعته صلى الله عليه وسلم فعلًا وتركًا.
الرد: نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم القنوت في نوازل أقل ضررًا من الوباء والطاعون، فيقاس عليها الطاعون، وتقدم أنَّ الفقهاء مجمعون إجماعًا عمليًّا على القياس في العبادات.
الدليل الثالث: قال محمد بن مفلح: لم يثبت القنوت في طاعون عمواس، ولا في غيره[30].
الرد: تقدم.
الترجيح: الذي يترجح لي القنوت في الأوبية العامة، فالقنوت فيها أولى من القنوت على قبيلة لحيان لقتلهم عشرة من الصحابة رضي الله عنهم أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم عينًا وأولى من القنوت للمستضعفين في مكة ممن حبسوا عن الهجرة للمدينة، لكن إذا كانت الأوبية عقوبة من الله كالأوبية التي تصيب أهل الفواحش، فهل يقنت لها؟ النفس تميل إلى عدم القنوت والله أعلم.
[1] انظر: مشارق الأنوار (1/ 321)، وكشاف القناع (4/ 323)، ومجمع بحار الأنوار (3/ 447).
[2] انظر: المحكم والمحيط الأعظم (10/ 566)، ومختار الصحاح ص (332)، ولسان العرب (1/ 189).
[3] انظر: حاشية ابن عابدين (3/ 69)، وشرح مختصر خليل للخرشي (5/ 133)، وأسنى المطالب (3/ 38).
[4] انظر: شرح مختصر خليل للخرشي (5/ 133).
[5] بذل الماعون في فضل الطاعون ص:(104).
[6] قال ابن نجيم في الأشباه والنظائر ص: (382) القنوت عندنا في النازلة ثابت وهو الدعاء برفعها ولا شك أنَّ الطاعون من أشد النوازل
[7] انظر: تحفة المحتاج (1/ 202) ومغني المحتاج (1/ 242) ونهاية المحتاج (1/ 508) وحاشية قليوبي (1/ 233) وحاشية الجمل على شرح المنهج (2/ 65).
[8] انظر: الفروع (1/ 543) والمبدع (2/ 14) والإنصاف (2/ 175) ومعونة أولي النهى (2/ 267).
[9] رواه البخاري (1889)، ومسلم (1376).
[10] انظر: تحفة المحتاج (1/ 202)، ونهاية المحتاج (1/ 508).
[11] رواه البخاري (4559).
[12] انظر: تحفة المحتاج (1/ 202)، وكنز الراغبين (1/ 233)، ومغني المحتاج (1/ 242).
[13] رواه البخاري (1880)، ومسلم (1379).
[14] رواه البخاري (5769)، ومسلم (2047).
[15] انظر: نهاية المحتاج (1/ 508).
[16] انظر: الفتاوى الفقهية الكبرى (1/ 141)، ونهاية المحتاج (1/ 508).
[17] انظر: الإنصاف (2/ 175).
[18] قال ابن نجيم في الأشباه والنظائر: القنوت عندنا في النازلة ثابت وهو الدعاء برفعها، ولا شك أنَّ الطاعون من أشد النوازل، ص (382).
وقال الحموي في غمز عيون البصائر (4/ 133) متعقبًا ابن نجيم: قوله: ولا شك أنَّ الطاعون من أشد النوازل ... إلخ، أقول: هو وإن كان من أشد النوازل، إلا أنَّه رحمة وشهادة، فلا يطلب رفعهما، فيفهم من تعليله القنوت للوباء دون الطاعون؛ والله أعلم.
تنبيه: مذهب الأحناف والمالكية يصلون ركعتين لرفع الوباء:
قال في الدر المختار وحاشيته لابن عابدين (3/ 69): (قوله: ومنه الدعاء برفع الطاعون)؛ أي: من عموم الأمراض، وأراد بالدعاء الصلاة لأجل الدعاء؛ قال في النهر: فإذا اجتمعوا صلى كل واحد ركعتين ينوي بهما رفعه، وقال محمد عليش في منح الجليل (1/ 201): وتندب الصلاة للزلزلة ونحوها من الآيات المخوفة كالوباء والطاعون أفذاذًا وجماعة، ركعتين أو أكثر، وعن اللخمي ندب ركعتين.
[19] انظر: نهاية المحتاج (1/ 508)، وحاشية الجمل على شرح المنهج (2/ 65)، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج (2/ 68).
[20] رواه البخاري (2829)، ومسلم (1914).
[21] انظر: غمز عيون البصائر (4/ 133)، والفروع (1/ 543)، وكشاف القناع (1/ 421)، ومطالب أولي النهى (2/ 59).
[22] انظر: نهاية المحتاج (1/ 508)، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج (2/ 68).
[23] الفروع (1/ 543).
[24] انظر: نهاية المحتاج (1/ 508).
[25] انظر: نهاية المحتاج (1/ 508).
[26] انظر: الفروع (1/ 543)، والمبدع (2/ 14)، والإنصاف (2/ 175)، ومعونة أولي النهى (2/ 267).
[27] قال التهانوي في إعلاء السنن (6/ 116): القنوت في الفجر لا يشرع لمطلق الحرب عندنا، وإنَّما يُشرع لبليَّة شديدة تبلغ بها القلوب الحناجر.
[28] رواه مسلم (1718)، وأصل الحديث في البخاري (2697).
[29] رواه البخاري (631).
[30] الفروع (1/ 543).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم