حمى الوادي المتصدع

ناصر بن محمد الأحمد

2015-02-12 - 1436/04/23
عناصر الخطبة
1/الكوارث بين الابتلاء والعقوبة 2/أسباب معاقبة الأمم بالكوارث الكونية 3/قصص مأسوية لبعض الكوارث التي حلت بالمسلمين عبر التاريخ 4/الابتلاء بالأمراض والأسقام 5/بعض ثمرات المرض وحِكَمِه

اقتباس

عباد الله: إن الله -سبحانه- لا يقضي شيئاً كوناً ولا شرعاً إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وللأمراض والأسقام فوائد عظيمة، وحكم بالغة، لو تأملها المسلم حق التأمل لأدرك بيقين أن المرض نعمة ومنحة من الله ساقه إليه؛ فمن ثمرات المرض وحكمه أن الله يـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله جعل لنا في حادثات الليالي والأيام مضماراً للتفكر والاعتبار: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ)[النــور: 44]ولما حكى الله حال بني النضير، قال: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)[الحشر: 2].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يخوف بعظيم آياته، وببعض أمراضه: (ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)[الزمر: 16]وقال سبحانه: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا)[الإسراء: 59].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله كان من دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك" صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: حمى الوادي المتصدع، حديث المجالس والمنتديات، وسائر وسائل الإعلام هذه الأيام، وكيف لا يكون حديث المجالس، وقد مات عدد غير قليل من المسلمين بسبب هذا المرض، تذكر بعض المصادر أنها بالمئات، ووصل إلى أماكن غير منطقة جازان، وسجلت حالات في بعض مناطق المملكة، وبالمناسبة، فإن هذه التسمية نسبة إلى منطقة تسمى:"الوادي المتصدع في كينيا" وهي المنطقة التي اكتشف فيها الفيروس أول مرة عام 1930م، وهو مرض قاتل -عافانا الله وإياكم منه-.

 

عباد الله: إن حصول مثل هذه الكوارث، إما أن تكون عقوبة من الله، ونحن لا نجزم بذلك، بل نقول: قد تكون عقوبة بسبب أفعال العباد، وقد تكون ابتلاءً من الله لمن حل بهم هذه المرض تكفيراً لسيئاتهم، ورفعةً في درجاتهم -نسأل الله تعالى أن تكون كذلك-.

 

فإن كانت الأولى وهي أنها عقوبة من الله، -ونسأل الله تعالى أن لا تكون- فإن الله -تعالى- يغار على دينه، ومن غيرته على دينه: أنه يعاقب المخالفين والعاصين والمتمردين، يعاقبهم بأنواع من العقوبات، ويسلط عليهم بعض جنوده، ومن جنود الله: البعوض الناقل لهذا المرض: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ)[المدثر: 31].

 

لكنك قد تتسأل وتقول: ولماذا يعاقب الله بعض المجتمعات بمثل هذه الأمراض؟

 

فالجواب: أن للعقوباتِ أسباباً كثيرة، ورد ذكرُ بعضهِا في الكتاب والسنَّة، وجامعُها المعاصي والذنوب، والتكذيب والإعراض.

 

فمن أسبابِ العقوباتِ المدمرة، والفواجعِ المهلكة، والأمراض المخوفة: إقصاءُ الشريعة عن الحكمِ والتشريع، أو تطبيقُها على أضيقِ نطاق، مع المنةِ والأذى، والله يتوعدُ الأمة إن هي فعلتْ ذلك بالخزيِ والنكالِ في الحياةِ الدنيا، ولعذابُ الآخرةِ أشدُ وأبقى، قال الله -تعالى-: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة: 85].

 

ومن أسبابِ العقوبات في الدنيا قبلَ الآخرة: إشاعةُ الفاحشة في الذين آمنوا، وفي ذلك يقولُ ربنا -جل جلاله-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النــور: 19].

 

ومن إشاعةِ الفاحشة: الدعوةُ للاختلاط، ونزعِ الحجاب، وعرضُ الفساد والفنِ الرخيص، وبثُ السمومِ والأفكارِ المستوردة، مما لا يتسعُ المقام لسرده، وفي الأثر: "وما أعلن قومٌ الفاحشة، إلا عمتهم الأوجاعُ والأسقامُ التي لم تكن في أسلافهم".

 

ومن أسبابِ العقوبات: منعُ الزكاة، تلك التي لو قامَ أثرياءُ المسلمين بأدائها، لما وجدتَ بين المسلمين فقيراً ولا محتاجاً، واسمع إلى عقوبةِ الأمة، حين تبخل بزكاةِ أموالِها، قال عليه الصلاة والسلام: "وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمْ لم يمطروا".

 

وقد يستخفُ أقوامٌ بهذه العقوبة؛ لأنهم اعتادوا تدفقَ المياهِ ووفرتَها في بيوتِهم، لكنهم لو قلبوا النظر يمنةً ويسرة، في البلادِ التي أصابَها القحطُ والجفاف، لعلموا أنهم كانوا واهمين، وعن الصراط لناكبين.

 

ومن أسبابِ العقوبات كذلك: موالاةُ الكفارِ، والتقربُ إليهم بالمودةِ والمحبة، وقد وضح القرآنُ الكريم أنه لا يتولى الكفار، ويتقرب إليهم إلا منافق ظاهر النفاق، قال تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا)[النساء: 138 - 139].

 

وقد حدثنا التاريخ عن عقوباتٍ حصلتْ لبعض الأمم التي والتِ الكافرين، كما حصل في بلادِ الأندلس عندما والى أمراءُ الطوائفِ النصارى، فنفض الصليبيون البساطَ من تحتِ أقدامهِم، وألقوا بهم في مزبلةِ التاريخ، وأصبحتْ هذه البلاد حسرةً في نفسِ كلِ مسلم، حين يذكرُ ما فيها من حضارةٍ وآثارٍ للمسلمين، ثم يذكرُ أولئكَ الأوباش، الذين أضاعوا ذلك الفردوس المفقود، بسبب ولائهم لأعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين.

 

ومن أسبابِ العقوبات كذلك: تركُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، والذي بتركهِ تستفحلُ الفاحشة، وتعمُ الرذيلة، ويستطيلُ الشر، وتخربُ البلادُ والعباد، واسمع لعقوبةِ الأمة، حين تتخلى عن فريضةِ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ففي المسندِ وغيرهِ من حديثِ حذيفةَ -رضي الله عنه- قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليبعثنّ الله عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".

 

ألا فَضّ الله أفواهاً، وأخرس ألسناً، تريدُ لهذهِ الفريضةِ أن تموت.

 

ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك: انتشارُ الظلمِ في المجتمع، وغيابُ العدلِ فيه، فيأكلُ القويُ الضعيف، وينهبُ الغنيُ الفقير، ويتسلطُ صاحبُ الجاهِ والمكانة على المسالِم المسكين، وحين تسودُ هذه الأخلاقُ الذميمة، والخصالُ المنكرة، ولا تجدُ من يقولُ للظالِم: أنتَ ظالم، فقد آن أوانُ العقوبة، واقتربَ أجلُها لو كانوا يفقهون، فعند الترمذي وأبي داود قال عليه الصلاة والسلام: "إن الناسَ إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه".

 

ومن أسبابِ العقوبات: انتشار مؤسسات الربا، وارتفاع مبانيها، حيث تعاطاه الكثيرون، وأَلِفه الأكثرون، وقل له الناكرون، واللهُ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ)[البقرة: 278 - 279].

 

ويقول سبحانه: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)[البقرة: 276].

 

وذهابُ بركةِ المال، ومحقُ عائدهِ ونتاجهِ ملموسٌ مشاهد، يعترفُ به المرابون، ضمناً وتصريحا، والعالمُ الإسلامي اليوم يعاني الأزماتِ الاقتصاديةَ الخانقة لتورطهِ بتعاطي الربا، وإعراضِه عن الشرعِ المطهر، واستخفافِه بالوعيدِ الإلهي لأكلةِ الربا، ومدمنيه.

 

ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك: ظهور المعازف، وانتشار الغناء بين الناس، تحت مسمى السياحة، حتى عد أمراً معروفاً، واستمع -يا رعاك الله- إلى العقوبة المتعودة لأهله، قالعليه الصلاة والسلام: "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف" فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذلك؟ قال: "إذا ظهرت القيانوالمعازف، وشربت الخمور".

 

ومن أسباب العقوبات كذلك: الكفر بنعم الله، وعد القيام بواجب شكرها، قال الله -تعالى-:  (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[سبأ: 15 - 19].

 

وقال تعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].

 

ومن أسباب العقوبات كذلك: انتشار الفساد بجميع أشكاله، وكثرة وجود الخبث في المجتمع: قال الله -تعالى-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء: 16].

 

أيها المسلمون: إن أسبابُ العقوباتِ أكثر مما ذكر وليس المجال مجال استقصاء، لكنْ في الإشارةِ ما يُغني عن العبارة، والتلميح يغني عن التصريح.

 

أيها المسلمون: والقرآنُ الكريم، حين يعرضُ بوضوحٍ وجلاء مآلَ تلكَ القريةِ الظالمِ أهلُها، ويقررُ أنَّ ما أصابهَم، هو بسببِ ما اقترفتُه أيديهِم، من التمردِ والجحود، ونكران الجميل، حين يعرضُ القرآنُ ذلكَ كلَّه، فهو إنما يخاطبُنا نحن الحاضرين، ويخاطبُ غيَرنا، حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، يحذرُنا أن نقعَ في ذاتِ الخطأ، الذي وقعوا فيه، فنؤولُ لذاتِ المآلِ الذي آلوا إليه.

 

ولقد ذاقت هذه الأمة ألوناً من العقوباتِ المدمرةِ، التي يشيبُ من هولهِا الوالدان، ولولا أنَّ الذي سطَّرها في كتبهِم ونَقلَ لنا أخبارَها في مصنفاتِهم، هم أئمةُ الإسلامِ المحققون، كابن كثير والذهبي وابن الجوزي وغيرهِم، لظننا ذلك ضرباً من الخيالِ والتهويل.

 

فإليكم طرفاً، مما حدثَ لهذه الأمة، حينَ كفرتْ بأنعمِ الله، واستجابتْ لداعي الهوى والشيطان، لعلنا نتعظ ونعتبر، ونلجأ إلى ربنا، إذ لا ملجأ من الله إلا إليه.

 

ذكر ابن الجوزي -رحمه الله- خبرَ الطاعون، الذي أصاب، مدينةَ البصرةَ في العراق، قال: "فمات في اليومِ الأول سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني، إحدى وسبعون ألفا، وفي الثالث ثلاثةٌ وسبعون ألفا، وأصبح الناسُ في اليوم الرابع موتى إلا قليل من آحاد الناس، قال أبو النُفيد: وكان قد أدركَ هذا الطاعون، قال: كنَّا نطوفُ بالقبائلِ وندفنُ الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنَّا ندخلُ الدار، وقد مات أهلُها، فنسدُ بابهَا عليهم".

 

وفي أحداثِ سنةِ تسعٍ وأربعين وأربعمائة، من الهجرة، ذكر ابنُ كثيرٍ -رحمه الله- خبرَ الغلاءِ والجوعِ الذي أصابَ بغداد، حيث خلتْ أكثرُ الدور، وسُدَّت على أهلِها الأبواب، لموتِهم وفناءِهم، وأكلَ الناسُ الجِيفَ والميتة، من قلةِ الطعام، ووجد مع امرأةٍ فخذُ كلبٍ قد أخضَّر، وشَوَى رجلٌ صبيةً فأكلَها، وسقطَ طائرٌ ميت، فاحتوشته خمسةُ أنفس، فاقتسموه وأكلوه.

 

ووردَ كتابٌ من بخارى، أنَّه ماتَ في يومٍ واحد، ثمانيةَ عشرَ ألفَ إنسان، والناسُ يمرون في هذه البلاد، فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبواباً مغلقة، وجاء الخبرُ من أذربيجان، أنَّه لم يسلمْ من تلك البلاد، إلا العددُ اليسير جداً، ووقع وباءٌ بالأهوازِ وما حولها، حتى أطبق على البلاد، وكان أكثرُ سببِ ذلك الجوع، فكان الناسُ يشوونَ الكلاب، ويَنبشونَ القبور، ويشوونَ الموتى ويأكلونهم، وليس للناسِ شغلٌ في الليل والنهار، إلا غسلُ الأمواتِ ودفنُهم، وكان يدفنُ في القبرِ الواحد، العشرونَ والثلاثون.

 

وذكرَ ابنُ كثيرٍ -رحمه الله- في أحداثِ سنةِ اثنتين وستين وأربعمائةٍ من الهجرة، ما أصابَ بلادَ مصر من الغلاءِ الشديد، والجوعِ العظيم، حتى أكلوا الجيفَ والميتةَ والكلاب، فكان الكلبُ يباع بخمسةِ دنانير، وماتت الفيلة، فأكلتْ ميتاتُها، وظُهِرَ على رجلٍ يقتلُ الصبيانَ والنساء، ويدفنُ رؤوسَهم وأطرافَهم، ويبيعُ لحومَهم، فقُتلَ وأُكلَ لحمُه، وكانت الأعراب يقَدَمون بالطعام، يبيعونَه في ظاهرِ البلد، لا يتجاسرون على الدخول، لئلا يُخطفَ ويُنهبَ منهم، وكان لا يجسُر أحدٌ أن يدفنَ ميتَه نهاراً، وإنما يدفنُه ليلاً خُفيةً، لئلا يُنبشَ قبُره فيؤكل.

 

وفي طاعون عمواس المشهور عام 18هـ، قام أبو عبيدة خطيباً، فقال: "أيها الناس: إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظه" فأصابه الطاعون، فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل فصنع كصاحبه، وقال قوله، فأصابه الطاعون فمات، واستخلف على الناس عمرو بن العاص فقام فيهم خطيباً، فقال: "أيها الناس: إن هذا الوجع إذا وقع، فإنما يشتعل اشتعال النار فتحصنوا منه في الجبال"، ثم خرج الناس، فتفرقوا ودفعه الله عنهم، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه.

 

قال ابن كثير: "فني خلق كثير من الناس حتى طمع العدو وتخوفت قلوب المسلمين لذلك".

 

وذكروا أن الحارث بن هشام خرج إلى الشام في سبعين من أهله فلم يرجع منهم إلا أربعة.

 

وفي أحداث سنة 324هـ، يقول ابن كثير: "وفيها وقع ببغداد غلاء عظيم، وفناء كثير بحيث عدم الخبز فيها خمسة أيام، ومات من أهلها خلق كثير، وأكثر ذلك كان في الضعفاء، وكان الموتى يلقون في الطريق ليس لهم من يقومون بهم، ويُحمل على الجنازة الواحدة الرجلان من الموتى، وربما يوضع بينهم صبي، وربما حفرت الحفرة الواحدة فتوسع حتى يوضع فيها جماعة، ومات من أهل أصبهان نحو من مائتي ألف إنسان".

 

وفي أحداث سنة 423هـ، يقول ابن كثير: "وفيها وقع موتان عظيمان ببلاد الهند وخراسان وجرجان والري وأصبهان، خرج منها في أدنى مدة أربعون ألف جنازة.

 

وفي أحداث سنة 597هـ، يقول ابن كثير: "فيها اشتد الغلاء بأرض مصر فهلك خلق كثير جداً من الفقراء والأغنياء، حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل أن العادل كفن من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحواً من مائتي ألف وعشرين ألف ميت، وأُكلت الكلاب والميتات فيها بمصر، وأُكل من الصغار والأطفال خلق كثير... وكثر هذا في الناس جداً حتى صار لا ينكر بينهم، فلما فرغت الأطفال والميتات غلب القوي الضعيف فذبحه وأكله.

 

وفيها وقع وباء شديد ببلاد عنـزة بين الحجاز واليمن، وكانوا عشرين قرية فبادت منها ثماني عشرة لم يبق فيها ديّار ولا نافخ نار، وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قاني لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها، بل كل من اقترب إلى شيء من هذه القرى هلك من ساعته".

 

وفي أحداث سنة 749هـ، يقول ابن كثير: "تواترت الأخبار بوقوع البلاء في أطراف البلاد، فذكر عن بلاد القرم أمر هائل ومات فيهم خلق كثير، ثم ذكر أنه انتقل إلى بلاد الإفرنج حتى قيل إن أهل قبرص مات أكثرهم أو يقارب ذلك، وكذلك وقع بغزة أمر عظيم... كثر الموت في الناس بأمراض الطواعين، وزاد الأموات كل يوم على المائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا وقع في أهل بيت لا يكاد يخرج منه حتى يموت أكثرهم... وزادوا على المائتين في كل يوم... وكان يصلي في أكثر الأيام في الجامع على أزيد من مائة ميت، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وبعض الموتى لا يؤتى بهم إلى الجامع، وأما حول البلد وأرجائها فلا يعلم عدد من يموت بها إلا الله -عز وجل-... وبلغ المصلى عليهم في الجامع الأموي إلى نحو المائة وخمسين وأكثر من ذلك".

 

أيها المسلمون: ووالله الذي لا إله إلا هو لولا نقلة هذه الأخبار من علماء الأمة الموثوقين والمحققين كابن كثير وغيره، لكان يصعب تصديقها.

 

عباد الله: إن هذه العقوباتِ المهلكة والكوارثَ المفجعة، ليست ضرباً من الخيال، وليس فيها شيء من التهويلِ والمبالغة، فالله يقول: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 102].

 

لكن الذي نشأ من أمثالنا، منذُ نعومةِ أظفاره، في بحبوحةٍ من العيش، لم يذقْ مرارةَ الجوع طرفةَ عين، حريٌ به أن يعجبَ مما سمعَ كلَّ العجب، لكنْ سلوا الآباء والأجداد، الذين اصطلوا بشيء من نارِ الجوع، ولهيبِ الظمأ دهراً طويلاً، وارتعدتْ فرائصهُم وقلوبُهم من قطاعِ الطرق، وعصاباتِ السطو، في وضحِ النهار، يتضحُ أنَّه ليسَ في الأمرِ غرابةٌ من قريبٍ أو بعيد، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

 

أيها الأحبة: إن ما سمعتم من قصص قد حصلت لمسلمين، إنها ليست أخبار مجتمعات كافرة، بل وكانوا في تمسكهم بدينهم أحسن منّا حالاً، ومجتمعاتهم كانت أنظف من مجتمعاتنا بكثير، ومع ذلك عاقب الله هذه الأمة بمثل ما سمعتم، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، والسنة ماضية على الجميع: (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[الفتح: 23].

 

قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)[الزمر: 16].

 

والله -عز وجل- يقول: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ)[الأنعام: 43].

 

فلا بد من الضراعة إلى الله بالدعاء والعمل.

 

أمَّا الدعاء، فالجميع يبادر إليه خوفاً وهلعاً.

 

وأما العمل، فلا يقدر عليه إلا الصادقون المخلصون.

 

العمل على ترك ما أوجب العقوبة، من فواحش ومنكرات، ومبارزة للجبار بالمعاصي والموبقات، مع إهمال شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

نفعني الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: وأما إن كان حمى الوادي المتصدع ابتلاءً من الله لأهل جازان، فإننا نذكرهم بأن الابتلاء بالأمراض والأسقام، قد يكون هبة من الله ورحمة، ليكفر بها الخطايا، ويرفع بها الدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها"[رواه البخاري ومسلم].

 

وقال رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا مالنا بها؟ قال: "كفارات"قال أبي بن كعب: وإن قلّت؟ قال: "وإن شوكة فما فوقها"[رواه أحمد].

 

ولقد عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مريضاً من وعك -والوعك: هو الحمى-كان به، فقال صلى الله عليه وسلم: "أبشر، فإن الله -عز وجل- يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا، لتكون حظه من النار من الآخرة"[رواه أحمد وابن ماجة].

 

فمن هنا -عباد الله- نعلم النتائج الإيجابية التي يثمرها المرض، ونعلم أن مذاقه كالصبر، ولكن عواقبه أحلى من الشهد المصفى.

 

عباد الله: إن الله -سبحانه- لا يقضي شيئاً كوناً ولا شرعاً إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وللأمراض والأسقام فوائد عظيمة، وحكم بالغة، لو تأملها المسلم حق التأمل لأدرك بيقين أن المرض نعمة ومنحة من الله ساقه إليه، فمن ثمرات المرض وحكمه: أن الله يستخرج من المريض عبودية الضراء، وهي الصبر، وهذا لا يتم إلا بأن يقلب الله الأحوال على العبد حتى يتبين صدق عبوديته لله -تعالى-، قال صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"[رواه مسلم].

 

والمصائب والآلام ملازمة للبشر، ولا بد لهم منها لتحقيق العبودية لله، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ)[البقرة: 155].

 

قال بعضهم: "لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام، ولا جزع اللئام".

 

قال شيخ الإسلام: "فمن ابتلاه الله بالمر، بالبأساء والضراء، فليس ذلك إهانة له، بل هو ابتلاء وامتحان، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيداً، وإن عصاه في ذلك كان شقياً".

 

ومن فوائد المرض: تكفير الخطايا والسيئات التي يقترفها العبد بقلبه ولسانه وسمعه وبصره وسائر جوارحه، فإن المرض قد يكون عقوبة على ذنب وقع من العبد، لقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)[الشورى: 30].

 

وتعجيل العقوبة للمؤمن في الدنيا خير له من عقوبة الآخرة، حتى تكفر عنه ذنوبه، عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أردا الله بعبد الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة"[رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].

 

والمرض -يا عباد الله- سبب في دخول الجنة؛ لأن الجنة لا تنال إلا بما تكرهه النفس، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حفّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"[رواه البخاري ومسلم].

 

ومن حكمة المرض: أنه يرد العبد الشارد عن ربه إليه، ويذكره بمولاه بعد الغفلة، ويكفه عن معصيته بعد الانهماك فيها، فإن الصحة والملذات والمال والشهوات قد تطغي العبد وتغره، فينهمك في المعاصي والغفلة، فإذا ابتلاه الله بمرض أو غيره واستشعر ضعفه وذله وفقره إلى خالقه ومولاه، وتذكر تقصيره في حقه عاد إلى ربه نادماً ذليلاً متضرعاً.

 

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن...

 

 

المرفقات

الوادي المتصدع

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات