اقتباس
فهؤلاء وغيرهم كثير قد ذهبوا وفنيت أجسادهم منذ أكثر من ألف سنة أو منذ ما يقارب ألف سنة، لكن بقي ما خطوه وما كتبوه من علم نافع، وأظنه سيظل قرونًا أخرى -إن شاء الله- علمًا نافعًا ينتفع به الناس...
قالوا: "أنت تملك الكلمة ما دامت في صدرك، فإذا تكلمت بها مَلَكَتْك"، ونقول: إن نفس هذه القاعدة تنطبق على ما يسطره القلم من سطور وحروف، بل إن المتكلم بكلام ما قد يُنسى كلامه ذلك بعد ساعة أو ساعات أو يوم أو أيام أو شهر أو شهور... لكن ما تخطه اليد على صحائف الأوراق قد يدوم قرونًا؛ فإننا نقرأ للإمام البيهقي وقد مات سنة: (458 هـ)، ونتتلمذ على كتب الإمام ابن عبد البر وقد مات سنة: (463 هـ)، وقد مات في نفس هذه السنة: الخطيب البغدادي، وبعده بسنتين مات أبو القاسم القشيري صاحب التفسير، وأبو القاسم الهُذَلي عالم القراءات... فهؤلاء وغيرهم كثير قد ذهبوا وفنيت أجسادهم منذ أكثر من ألف سنة أو منذ ما يقارب ألف سنة، لكن بقي ما خطوه وما كتبوه من علم نافع، وأظنه سيظل قرونًا أخرى -إن شاء الله- علمًا نافعًا ينتفع به الناس. وعلى النقيض من هؤلاء نجد آخرين قد خطوا بأيديهم ما يُدِينُهم ويرديهم، فنوا هم وماتوا وتحللت أجسامهم، وما فنيت أوزارهم ولا انقطعت سيئاتهم ولا ختم على أعمالهم؛ فلقد تركوا سيئة جارية تجري عليهم أوزارها ما بقيت كتبهم وما بقي ما خطوه! واليوم؛ في عصر الصحف والمجلات والكتب، في عصر المطابع والطابعات، في عصر الانترنت والمنتديات... في عصرنا هذا كل الناس تكتب وكل الناس تخط بأناملها ما يحييها أو ما يرديها، ثم يموت الناس ويبقى ما كتبوه؛ فإن الكتابة دائمًا أطول عمرًا من الإنسان، وما أبلغ قول القائل:
ومــــا مـــــن كـــــــاتب إلا سيفنى *** ويُبقي الدهر ما كتبت يداهُ
فلا تكتب بخطك غير شيءٍ *** يســـــرك فـي القـــيــامــــة أن تراهُ
والكتابة كلام، لكنه كلام موثق محفوظ؛ فقد ضُمِن له حين خطته الأقلام شيءٌ من البقاء والدوام والخلود، لذا فكل ما ينطبق على كلام الناس بخيره وشره، فهو ينطبق من باب الأولى على ما هو مسطور ومخطوط ومكتوب. ولقد سمعنا نبينا -صلى الله عليه وسلـم- يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم" (البخاري)، وفي الصحيحين: "إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب"، ويروي بلال بن الحارث المزني -الصحابي الجليل- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عز وجل عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه"(ابن ماجه).
والكتابة تأصيل؛ فرب كاتب يكتب ليؤصل للخنا والفجور في ديار المسلمين، ومنهم من يكتب ليدعو إلى التمرد على حدود الدين وينشر الشبهات بين أظهر المسلمين، ومنهم من يكتب ليهاجم معلومًا من الدين بالضرورة، ومنهم من يكتب لشهرة أو لنزوة أو للتملق والنفاق أو لمرض قلب بُلي به من جراء فواحش وقع فيها... ومن الناس من يكتب مدافعًا عن الدين ومنافحًا، أو باعثًا لما اندرس من أحكام الإسلام، أو شارحًا لما خفي من تعاليمه، أو صائنًا للأعراض ومحترزًا لها، أو معلمًا وموجهًا ودالًا على الخير ومرشدًا... فهل يستوي هؤلاء وهؤلاء؟! أما الفريق الأول فهم أصحاب القلم الخبيث والكلمة الخبيثة، وأما الفريق الثاني فهم أهل الكلمة الطيبة والقلم الطيب، فشتان ما بين الفريقين: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم: 24 - 26].
والكتابة إما حسنة جارية يجري على صاحبها الأجور إلى يوم القيامة، وإما سيئة جارية تجري على كاتبها الأوزار إلى قيام الساعة، وهذا مثال ونموذج حدث مع أحد الدعاة الذي يحكي فيقول: تنقلت بين العديد من المساجد إمامًا في الصلاة وخطيبًا ومحاضرًا، فمكثت في كل مسجد بضع سنين، وما دخلت مسجدًا إلا وشرحت فيه كتاب: "رياض الصالحين" للإمام النووي، باب منه في كل يوم، وربما شرحت الباب -إن كان طويلًا- على لقاءين أو ثلاثة، وفي يوم نظرت إلى تاريخ وفاة النووي فإذا به قد مات سنة (676 هـ)؛ أي منذ ما يقرب من سبعمائة سنة، وأنا قد شرحت على الناس كتابه في عدة مساجد، وأعلم أن غيري من الدعاة شرحوه أيضًا، وعلى مدى تلك القرون الطويلة كم من العلماء استفادوا وأفادوا منه! فأي قدر من الأجور وصل النووي -إن خلصت نيته لله- من هذا الكتاب وحده! بل من مجموع ما كتبه لله؟! ونفس هذا الكلام ينطبق على ما كتبه ابن كثير والطحاوي والبخاري والعسقلاني وابن رجب الحنبلي، وآلاف مؤلفة من علماء الأمة... وكنت أقلب ورقات إحدى الصحف، فإذا بصاحب مقال قد جمع سقطات الشعراء، بل قل قد جمع إلحادهم وكفرهم؛ فهذا أصابته مصيبة فانطلق يعترض على قضاء الله ويشكك في حكمة أقداره، وهذا الشقي الآخر ينكر البعث بعد الموت ويعد الحياة بلا هدف ولا غاية، وهذا الثالث يعتقل المحتل حبيبته ويعذبها فيطالب الله بما لا يليق ويصف الجليل بما لا يليق!... أناس ماتوا وما مات ما كتبوه، فالحذر الحذر مما تكتب.
قلمان لـو تعـــــــــرفـــــهـــــمـا *** لعرفت نوع مـــــــــــــدادِ
قــــــلـــم الــــــرزين، وضــــده *** قلم السفيه العادي
فاختر لنفسك واحدًا *** يُنــــــجيـــــك يوم معـادِ
ودعونا نلخص الأمر الآن ونبينه فنقول: قلمك وكتابتك إما أن يقودانك إلى جنة، وإما أن يسوقا صاحبهما إلى النار -والعياذ بالله-، فعن سهل بن سعد، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" (البخاري). وإن كان النبي -صلى الله عليه وسـلم- قد قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (متفق عليه)، فإنني اليوم أقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكتب خيرًا أو ليحطم قلمه ودواته.
ولستُ أول من انتبه إلى خطورة الكتابة وما تخطه الأصابع، بل لقد نبهني إلى ذلك علماء ودعاة وخطباء نابهون، قد جُمِعت هنا شيء من خطبهم، فلعلك تفيد منها:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم