اقتباس
والرضا علامة العقل، والسخط أمارة الحمق: فما دامت الأقدار مكتوبة لن يُغيِّر السخط فيها شيئًا فما قيمة التسخط وما وزنه وما فائدته؟! ففي صحيح مسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة...
شئنا أم أبينا فإننا في دار بلاء ومحنة واختبار وتمحيص، تلك هي طبيعة دنيانا؛ إذا حلت أوحلت وإذا كست أوكست و إذا أينعت نعت وإذا أوشكت شكت وإذا أقبلت بلت، ولتتأكد من هذا فرتل: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)[آل عمران: 186]، وأقرأ قول الله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)[البقرة: 155]، واستزد من قوله -عز وجل-: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 2-3]..
ولملم يا أخي الأشلاء من طرقات دنيانا *** فهذا طبعها دومًا تحيل الفرح أحزانا
ولا تبقي على غال وإن قدمت قربانا *** فكم قد عانق الجوزاء فيها والأصيلانا
رجال غيروا التاريخ أفئدة وألوانا *** فأخذتهم كشمطاء بدت في العين شيطانا!
فإن كانت الدنيا لن تخلو من كدر ومصائب وابتلاءات ومكروهات للنفس، فليس أمام من فيها إلا أحد شيئين؛ إما أن يرضى بقضاء الله -عز وجل- وتقديره وفعله ويوقن بحكمته، وهذا حال المؤمنين... وإما -والعياذ بالله- أن يجزع ويتسخط ويعترض على أفعال الله -سبحانه وتعالى-! وهذا حال الخاسرين البطالين.
وتعالوا بنا الآن نستعرض على عجالة ماذا عند الله -تعالى- للراضين، ثم ماذا يكون من شأن الساخطين، وما هي الفروق التي بينهما:
أولًا: للراضي الرضا، وللساخط السخط: فعن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني)؛ فمن رضي عن الله رضي الله عنه: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)[المائدة: 119]، ولا عجب ولا غرابة فـ(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرحمن: 60].
ومن جملة رضا الله -تعالى- في الآخرة على الراضين أن يصب عليهم الأجر صبًا، حتى يتمنى من لم يبتلَ ومن لم يرض أن لو كانوا قد فعلوا؛ فعن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
ثانيًا: والرضا علامة العقل، والسخط أمارة الحمق: فما دامت الأقدار مكتوبة لن يُغيِّر السخط فيها شيئًا فما قيمة التسخط وما وزنه وما فائدته؟! ففي صحيح مسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"، وقد سمع عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، ولله در عبد الله بن الزبير حين يقول:
هون عليك فإن الأمور *** بكف الإله مقاديرها
فليس يآتيك منهيها *** ولا قاصر عنك مأمورها
ثالثًا: الرضا هو ديدن العابدين، وجنة الصالحين، ومرفأ الأوابين، وإلي هؤلاء ينضم الراضون في كل زمان ومكان... فما لنا لا نكون منهم؟! فهذا عروة بن الزبير يضرب المثل في الرضا واليقين، يحكي ابن القيم حكايته فيقول: "وقدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد، وكان من أحسن الناس وجهًا، فدخل يومًا على الوليد في ثياب وشي وله غديرتان وهو يضرب بيده، فقال الوليد: هكذا تكون فتيان قريش! فعانه، فخرج من عنده متوسنًا، فوقع في اصطبل الدواب فلم تزل الدواب تطأه بأرجلها حتى مات.
ثم ان الآكلة وقعت في رجل عروة فبعث إليه الوليد الأطباء فقالوا: إن لم تقطعها سرت إلى باقى الجسد فتهلك، فعزم على قطعها، فنشروها بالمنشار... فلما قدم من عند الوليد المدينة تلقاه أهل بيته وأصدقاؤه يعزونه فجعل يقول: (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)[الكهف: 62]، ولم يزد عليه(عدة الصابرين، لابن القيم).
وفي مدارج السالكين يحكي ابن القيم أيضًا عن رضا سعد وصبره فيقول: "ولما قدم سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- إلى مكة -وقد كف بصره- جعل الناس يهرعون إليه ليدعو لهم، فجعل يدعو لهم، قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام فتعرفت إليه فعرفني، فقلت: يا عم، أنت تدعو للناس فيشفون، فلو دعوت لنفسك لرد الله عليك بصرك! فتبسم ثم قال: يا بني، قضاء الله أحب إلي من بصري".
***
ومهما يكن من كرب أو شدة فإن الفرج يتلوها لا محالة إن خلصت النية وتوفر صدق اللجؤ إلى الله -عز وجل-، أوليس الله قد وعد وأكد فقال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح: 5-6]، يحكي ابن حبان "أن رجلا ركب البحر فكسر به فوقع في جزيرة من جزائر البحر، فمكث فيها ثلاثًا لا يرى أحدًا ولا يأكل طعامًا ولا يشرب شرابًا، فأيس من الحياة فتمثل:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي *** وصار القار كاللبن الحليب!
فأجابه مجيب يقول:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه *** يكون وراءه فرج قريب
فنظر فإذا سفينة في البحر، فلوح لهم فأتوه فحملوه وأصاب معهم خيرًا ورجع إلى أهله سالمًا"(روضة العقلاء ونزهة الفضلاء).
***
والرضا لا يكون إلا بعد الصبر؛ لأن منزلة الرضا فوق منزلة الصبر، وشرط الصبر أن يكون عند "الصدمة الأولى"، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بامرأة تبكي عند قبر، فقال: "اتقي الله واصبري" قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتت باب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"(متفق عليه).
وقد جمعنا هاهنا أجمل ما وقفنا عليه من خطب منبرية تدور حول الرضا، وأصله ومعناه، وأركانه وما يعين عليه، وبدايته ومنتهاه...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم