اقتباس
لقد حدث -يا رسول- ما خفته علينا؛ فها هم الناس قد وُسِع عليهم في الدنيا فتنافسوا فيها حتى أهلكتهم بغفلة قاتلة وتطاحن على حطام فانٍ؛ فهذا عنده شقة فاخرة وذاك يبحث عن أفضل منها، وهذا يملك سيارة فارهة وذاك يريد خيرًا منها... تنافس وتصارع وغيرة وتقاتل وتباهٍ وتفاخر، وصدقت...
لو رُفع عن الناس الغطاء لأبصرت عيون قلوبهم، أقول: لو انكشفت الدنيا على حقيقتها أمام الخلق لأدركوا أن ما يتصارعون عليه من حطام الدنيا تافه حقير!؛ فكم هجر أخٌ أخاه من أجل الدنيا! وكم قتل جار جاره على تافه من الدنيا! وكم من مزارع سفك دم شريكه لأجل شبر من أرض! وكم من تاجر ألهته تجارته حتى أردته! وكم صاحب منصب غره منصبه حتى دخل قبره! بل كم من عالم ملء علمُه قلبَه كبرًا وزهوًا حتى طرحه في نار جهنم -والعياذ بالله-!...
وهذا نموذج صارخ لما تفعله الدنيا بأهلها، يرويه جرير بن عبد الحميد عن الليث قال: صحب رجل عيسى ابن مريم -عليه السلام-، فقال: أكون معك وأصحبك قال: فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر، فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة، فأكلا رغيفين، وبقي رغيف، فقام عيسى إلى النهر فشرب، ثم رجع فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: "من أخذ الرغيف؟" قال: لا أدري قال: فانطلق معه صاحبه، فرأى ظبية معها خشفان لها، قال: فدعا أحدهما فأتاه فذبحه، واشتوى منه فأكل هو وذاك، ثم قال للخشف: "قم بإذن الله"، فقام فذهب، فقال للرجل: "أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟" قال: ما أدري.
قال: ثم انتهيا إلى وادي ماء، فأخذ عيسى بيد الرجل فمشيا على الماء، فلما جاوزا قال: "أسألك بالذي أراك هذه الآية، من أخذ الرغيف؟" قال: لا أدري. قال: فانتهيا إلى مفازة فجلسا، فأخذ عيسى فجمع ترابًا، أو كثيبًا، ثم قال: "كن ذهبًا بإذن الله"، فصار ذهبًا، فقسمه ثلاثة أثلاث، فقال: "ثلث لي، وثلث لك، وثلث لمن أخذ الرغيف"، فقال: أنا أخذت الرغيف، قال: فكله لك، قال: وفارقه عيسى، فانتهى إليه رجلان في المفازة ومعه المال، فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه، فقال: هو بيننا أثلاثًا، قال: فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري طعامًا قال: فبعثوا أحدهم، قال: فقال الذي بعث: لأي شيء أقاسمهما هذا المال؟ ولكني أصنع في هذا الطعام سمًا فأقتلهما، قال: ففعل، وقال ذانك: لأي شيء نجعل لهذا ثلث المال؟ ولكن إذا رجع إلينا قتلناه، واقتسمناه بيننا، قال: فلما رجع إليهما قتلاه، وأكلا الطعام، فماتا، قال: فبقي ذلك المال في المفازة، وأولئك الثلاثة قتلى عنده". وفي بعض الروايات قال: فمر بهم عيسى على تلك الحال، فقال لأصحابه: "هذه الدنيا فاحذروها"(الزهد لابن أبي الدنيا ومعجم ابن الأعرابي).
وكم رأينا من أخوة كانوا في حياة أبيهم متآلفين متحابين، فلما مات والدهم -وقد ترك لهم من المال الكثير- اختلفوا في توزيع الميراث فتقاطعوا وتناحروا وقطعوا أرحامهم وتهاجروا!
وكم من أسرة استدانت لإقامة زفاف ضخم كبير؛ والسبب: كي لا يكون زفافهم أقل من زفاف بني فلان أو بني فلان! وكم أُجبر طالب على دخول كلية بعينها على غير رغبته وميوله ليفاخر به أبواه أقرانهم وجيرانهم!
ولقد حذرنا نبينا -صلى الله عليه وسلـم- من التكالب على الدنيا والتنافس فيها؛ فعن عمرو بن عوف الأنصاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم، وقال: "أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟"، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم"(متفق عليه).
نقول: ولقد حدث -يا رسول- ما خفته علينا؛ فها هم الناس قد وُسِع عليهم في الدنيا فتنافسوا فيها حتى أهلكتهم بغفلة قاتلة وتطاحن على حطام فانٍ؛ فهذا عنده شقة فاخرة وذاك يبحث عن أفضل منها، وهذا يملك سيارة فارهة وذاك يريد خيرًا منها، وهذا توطن منصبًا راقيًا وذاك يسعى لمثله... تنافس وتصارع وغيرة وتقاتل وتباهٍ وتفاخر، وصدقت يا رسول الله: "...وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها"(متفق عليه).
***
وقد نتج عن انشغال الناس بالدنيا وتكالبهم عليها وتصارعهم على حطامها أن طوتهم في طياتها وأسرتهم بزخرفها؛ فكانت النتائج التالية:
أولًا: قرآن مهجور لا يُقرأ، يوضع للتبرك في البيوت والسيارات يعلوه التراب! وكأنهم لم يعوا التحذير النبوي: "من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين"(الحاكم وصححه ووافقه الذهبي)؛ فمعناه: أن من مرت عليه ليلة لم يقرأ فيها بذلك فهو عند الله من الغافلين.
ثانيًا: ليل ينقضي في غفلة؛ إما نوم ثقيل وإما سهر طويل أمام الشبكة العنكبوتية والفضائيات، وقليلون هم من يقيمون الليل بذكر أو صلاة!
ثالثًا: ترى الرجل الكبير المسن الذي تجاوز الستين أو السبعين حريصًا على الدنيا وملذاتها ومتمسكًا بأموالها وأطيانها، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسـلم-: "قلب الشيخ شاب على حب اثنتين: طول الحياة وحب المال"(مسلم).
رابعًا: ترى الناس اليوم خبراء محترفون في أمور الدنيا؛ فالتاجر خبير كيف يجني المال، وكيف يجذب الزبائن، وكيف يقنعهم بسلعته... والشاب خبير كيف يتعرَّف على الفتيات ويغويهن... والفتاة خبيرة كيف تجذب إليها الأنظار وكيف تبرز مفاتنها... وربة المنزل خبيرة بأصناف المأكولات والمفروشات والملبوسات... والمهندس خبير، والطبيب خبير، والفلاح خبير، والصانع خبير... الكل خبراء ولكن في ماذا؟ في الدينا ولا شيء إلا الدنيا! أما في أمور الآخرة فجهلاء لا يعلمون، وبُكمٌ لا يتكلمون، وصمٌ لا يسمعون، هم في طريق الآخرة زاهدون وعنه متخلفون!! وصدق الله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[الروم: 7].
خامسًا: ترى الجميع عالي الهمة نشيطًا مقدامًا مجتهدًا سباقًا في أمور الدينا، أما في أمر الآخرة فتراه دنيء الهمة كسولًا متقاعسًا خائرًا متراخيًا... فالرجل مطحون، والسيدة مشغولة، الشاب لاه، والفتاة عابثة... الكل مأخوذ ومشدود ومشغول بدنياه ناسيًا لأخراه، وصدق الله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)[الأنبياء: 1-3].
سادسًا: المساجد -خاصة في صلاة الفجر- فارغة، وإن كان النبي -صلى الله عليه وسـلم- قد بشر بالأجور والحسنات عندما قال: "ولو يعلم الناس ما في العتمة والصبح الأول لأتوهما ولو حبوًا"(البيهقي في شعب الإيمان)، فإن أغلب الناس عن الأجور والحسنات مشغولون بالريال والجنيه والدولار!
***
ولعل هذا وذاك من أسباب تعوذ النبي -صلى الله عليه وسـلم- من الدنيا؛ فعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا هؤلاء الكلمات، كما تعلم الكتابة: "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن نرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا..."(البخاري).
ولسائل أن يسأل: إن كان هذا هو حال المتصارعين على الدنيا؛ فما الحل وكيف نفعل؟ ويقدم لنا رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- الإجابة، ينقلها إلينا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- حين يروي فيقول: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان ابن عمر، يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"(البخاري)
فلتسع للباقية، ولتعرض عن الفانية؛ فعن سهل، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "موضع سوط في الجنة، خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها"(البخاري)، ويقول السري بن ينعم -وكان من عباد أهل الشام-: "بؤسًا لمحب الدنيا، أتحب ما أبغض الله عز وجل؟"(معجم ابن الأعرابي).
***
وفيما يلي قد جمعنا باقة من كلمات أطباء القلوب ومشخصي أدوائها، يبصرونا بالطريق، ويحذرونا من المصير، يفتحون العيون ويوقظون الأفئدة؛ فنسأل الله أن ينفعنا بكلماتهم:
التعليقات