اقتباس
إن من إخواننا المسلمين المنكوبين والمشردين، الذين أُخرجوا من ديارهم، وتعرضوا لمحن صعبة، ومما زاد ما بهم من ابتلاءات: برد قارص لا يقيهم منه شيء، وما أسوأ اجتماع النكبات! حرب وقتل وتشريد، وبرد وثلوج...
تهلك الأمم حينما يسودها التفكك والأنانية، وتتأخر عندما يصير همّ كل فرد من أفرادها نفسه، ونفسه فقط، فلا يهتم بأمور المحيطين به، ولا يحفل بقضايا مجتمعه، ولا نوازل قومه، ويعيش غريبًا عن قضايا أمته، وإذا اتصف المرء بذلك باع ضميره، وخسر أقرب الناس إليه، وهدم وطنه، فيصير قريب شره لا يُرجى منه خير ولا نفعٌ، فيشقى في نفسه ويُشقي مَن حوله. وهذا نموذج إنسان خاسر، لا يبحث إلا عن متعته وشهواته، ولا يعبأ بهموم الآخرين وآلامهم، والمؤمن الحق يحمل نفسًا من أصفى النفوس وأسعدها، وروحًا محبة للخير، تبذل الإحسان للخلق، وقلبه يحب السعادة للآخرين، ويرجو الخير لكل المسلمين، يتألم لآلام إخوانه المنكوبين، ويسعد بفرحهم، ويتمنى التوفيق للجميع، يتبسم في وجوه الخلق، لا يبخل عليهم بماله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يحنو على اليتيم، ويخاف الله في الأرملة والمسكين.
هذا الرجل الرقيق القلب يُرْجَى أن يكون من أهل الجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن رب العزة -جل شأنه- في الحديث القدسي، عن عياض بن حمار المجاشعي -رضي الله عنه-، قال: "وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ" (مسلم: 2865).
فأكْرِم بمسلمٍ يسعى في منافع الناس، يفرح عندما يوسّع الله على إخوانه، ويسعد عندما تمتد يده بالعطاء، ويهنأ عندما يُطعم مسكينًا، أو يكسو فقيرًا، يبذل الإحسان لا يرجو بذلك إلا وجه الله، مستحضرًا قوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 9].
وهذه النفس هي التي يُقابَل صاحبها بالإحسان يوم القيامة، فـ(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60]، وقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء من ذلك، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ» (متفق عليه).
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث الأمة على الترابط والشعور بأنهم جسد واحد، فقال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" (رواه مسلم 2568)، فهل ترى أحوالنا في بلاد العالم الإسلامي يصدق عليها أن مسلميها كالجسد الواحد؟ أم صاروا أوزاعًا وفِرَقًا وشِيَعًا لا تسر أحوالُهم إلا أعداءهم؟!
إن أحوال الأمة المسلمة اليوم عجيبة؛ فبعضهم يأكل ما تشتهيه نفسه حتى يسمن، ثم يبحث عن علاجات وأودية تخفّض هذه السمنة، وتنزل هذه الكروش الممتلئة!! وبينما يموت بعضهم من التخمة، يموت آخرون من الجوع، ومنهم من يهنأ في البيوت والغرفات آمنون مستدفئون وغيرهم لا يجدون غطاء، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، حتى مات أطفالهم من شدة البرد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين على تفقد حاجات المحتاجين ومواساة المنكوبين، والحدب على المشردين، ومدح من قام بذلك، فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"(رواه البخاري 2486).
وفي موقف عملي عاشه النبي -صلى الله عليه وسلم- يبيّن حزنه -عليه الصلاة والسلام- لما رأى أحوال الفقراء والمنكوبين؛ فعن جَرِيرٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [النساء:1] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: (اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ) [الحشر:18]، "تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قَالَ- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَهَلَّلُ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"(رواه مسلم 1017).
إن من إخواننا المسلمين المنكوبين والمشردين، الذين أُخرجوا من ديارهم، وتعرضوا لمحن صعبة، ومما زاد ما بهم من ابتلاءات: برد قارص لا يقيهم منه شيء، وما أسوأ اجتماع النكبات! حرب وقتل وتشريد، وبرد وثلوج ورياح وأعاصير، وبلاء واحد من هذه الابتلاءات كفيل بتنغيص حياة الإنسان؛ فما بالك باجتماع هذه المهالك والآلام؟! إن الخائف لا يهنأ بنوم! والجائع لا يستطيع أن يقيم أوده، وكل إنسان منا موقوف بين يدي الله -تعالى- ومسئول عن هؤلاء المنكوبين، وماذا قدم لهم؟ أو لماذا خذلهم؟ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)[الحج:40].
والمسلمون اليوم مطالبون شرعا بالوقوف على حاجيات المستضعفين المنكوبين الذين يتعرضون لويلات الحرب والعنف، ممن ذاقوا ويلات الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، والبرد والحرمان، وتفقد هؤلاء والقيام على حوائجهم من أمارات الإيمان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ" (صحيح البخاري 5353). كما حذَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مغبة إهمال أهل الحاجات، وتضييع المشردين، والمحرومين فقال -صلى الله عليه وسلم-: " مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جائع إلى جنبه وهو يعلم به"(صححه الألباني في صحيح الجامع: 5505).
ولما سأل أَبُو جُرَىٍّ الْهُجَيْمِيُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَقَالَ: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانَ فِي الْأَرْضِ.." (مسند أحمد 15955).
إن الفقراء والمحتاجين والبؤساء بحاجة ماسّة إلى من يمد يده إليهم بالعطاء، يطعمهم من الجوع، ويدفئهم من البرد، (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد: 38]، فهل نحن فاعلون أم ستحدث سُنة الاستبدال؟!
ومن أجل تذكير المسلمين بحقوق إخوانهم المستضعفين والمشردين في بلاد المسلمين، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضّح سوء أحوال المنكوبين من المسلمين واجتماع آلام الحرمان والحروب مع آلام البرد وزمهرير الشتاء، وواجب المسلمين نحو هؤلاء الضعفاء، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
التعليقات