اقتباس
قالوا: "لو كان الفقر رجلًا لقتلته"، وأقول: صدقوا؛ فإنه يستحق القتل ألف مرة؛ إذ هو يذل العالم الخبير للجاهل الحقير، ويضطر العزيز الكريم للخبيث اللئيم، وقد يكون سببًا في فتنة ضعيف الإيمان فيغريه بالسرقة أو الاختلاس وأكل الحرام، بل وقد يفكر إنسان ما تحت وطأة الفقر في قتل ولده: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)...
هل يحب الإسلام الفقر؟... يجيب أحد الغافلين الجاهلين: بالتأكيد نعم، وكيف لا، وقد كان رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه فيقول: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين" (ابن ماجه)، ثم يتابع قائلًا: وها هو -صلى الله عليه وسلم- يخبرنا بسبق الفقراء إلى الجنة فيقول: "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا" (مسلم)، ثم يؤكد كلامه بقوله: بل وفي كتاب الله -عز وجل- تحذير واضح من الأموال وجمعها؛ فالله -تعالى- يقول: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15]، وبناءً على هذه المعطيات، فقد دعا صاحبنا الناس قائلًا: "فكونوا -عباد الله- فقراء"!!
ونتعجب حين نسمع ذلك، ويحزننا هذا الفهم الأعوج الأعرج الأعور! ونقول -واثقين غير مترددين-: إن الإسلام يكره الفقر ولا يحبه، وقد كان رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله منه ويقرنه بالكفر، فعن مسلم بن أبي بكرة، قال: كان أبي يقول في دبر الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وعذاب القبر"، فكنت أقولهن، فقال أبي: أي بني، عمن أخذت هذا؟ قلت: عنك، قال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقولهن في دبر الصلاة" (النسائي)، بل وفي حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقدم الاستعاذة من الفقر على الاستعاذة من الكفر، فكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وأعوذ بك من الفقر والكفر" (ابن حبان).
وقد مدح رسولنا -صلى الله عليه وسلم- صاحب المال الذي يؤدي حقه، فعن عمرو بن العاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا عمرو اشدد عليك سلاحك وثيابك"، قال: ففعلت، ثم أتيته فوجدته يتوضأ، فرفع رأسه، فصعد في النظر وصوبه، قال: "يا عمرو إني أريد أن أبعثك وجهًا، فيسلمك الله ويغنمك، وأزعب [أقطع أو أدفع] لك من المال زعبة [قطعة؛ قدرًا من المال] صالحة"، قال: قلت: يا رسول الله لم أسلم رغبة في المال إنما أسلمت رغبة في الجهاد والكينونة معك، قال: "يا عمرو، نعمًا بالمال الصالح مع الرجل الصالح" (الحاكم وابن حبان).
وأما الاحتجاج على حب الإسلام للفقر بحديث: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين"، فنجيب: بأن أغلب العلماء قد ضعفوه، وعلى فرض صحته فمعنى المسكين هنا: المتواضع وليس الفقير، يقول ابن عبد البر: "والمسكين ها هنا: المتواضع كله، الذي لا جبروت فيه ولا كبر، الهين اللين السهل القريب" (الاستذكار)، ويقول ابن قتيبة: "ومعنى المسكنة في قوله: "احشرني مسكينا": التواضع والإخبات، كأنه سأل الله -تعالى-، أن لا يجعله من الجبارين والمتكبرين، ولا يحشره في زمرتهم" (تأويل مختلف الحديث). وأما احتجاجه بدخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء على أن الإسلام يحبذ لأتباعه الفقر، فهو احتجاج في غير محله -كذلك-؛ فهل إذا نزلت مات ولد لمسلم، فجئته وعزيته وواسيته بأن له عند الله -إن صبر- "بيت الحمد" في الجنة، لأن الله يقول لملائكته في حق من قبض ولده فصبر: "ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد" (الترمذي)، فهل معنى هذا أن الإسلام يدعو الناس أن يتخلصوا من أولادهم ويسعوا في موتهم لينالوا "بيت الحمد" عند ربهم؟!!
الإجابة: كلا، بل معناه الصحيح: أن الإسلام يحثه أن يصبر على مصيبته لينال الأجر في الآخرة... وكذا يقال لمن أصابته مصيبة الفقر: إن صبرت على ما ابتليت به من الفقر كان جزاؤك هو السبق إلى دخول الجنة. وكذا يقال في الأحاديث التي تبين أجر المريض الصابر؛ فهل يحب الإسلام لأتباعه المرض! أم أنها دعوة للصبر إذا ما نزل البلاء ولم نجد منه مفرًا! وأما احتجاجه بقول الله -تعالى-: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، فقد قال الله في الآية التي قبلها مباشرة: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14]، فهل نطَلِّق الزوجات ثلاثًا ونتخلص من الأموال ليرضى الله عنا؟! أم أن الإسلام يحذرنا أن تلهينا نعمه التي وهبنا إياها عن ذكره وشكره؟ وقد نطق القرآن بهذا المعنى صريحًا في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون: 9].
وقد قالوا: "لو كان الفقر رجلًا لقتلته"، وأقول: صدقوا؛ فإنه يستحق القتل ألف مرة؛ إذ هو يذل العالم الخبير للجاهل الحقير، ويضطر العزيز الكريم للخبيث اللئيم، وقد يكون سببًا في فتنة ضعيف الإيمان فيغريه بالسرقة أو الاختلاس وأكل الحرام، بل قد يفكر إنسان تحت وطأة الفقر في قتل ولده: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام: 151]!
فكيف إذن يدعي مدعٍ أن الإسلام يحب الفقر! بل الإسلام يكره الفقر ويحاربه بشتى الوسائل، ومن تلك الطرق والأساليب التي حارب بها الإسلام الفقر ما يلي: أولًا: العمل والاحتراف والأخذ بالأسباب: فكثيرًا ما يكرر القرآن هذا المعنى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك: 15]، ولما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل من الأنصار يسأله، قال له: "أما في بيتك شيء؟" قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: "ائتني بهما"، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، وقال: "من يشتري هذين؟" قال رجل: أنا، آخذهما بدرهم، قال: "من يزيد على درهم مرتين، أو ثلاثًا"، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: "اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فأتني به"، فأتاه به، فشد فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عودًا بيده، ثم قال له: "اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا"، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع" (أبو داود بسند ضعيف).
وفي الصحيح من حديث الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" (البخاري).
ثانيًا: فرض الزكاة على الغني حقًا للفقير: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج: 24-25]، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين بعثه يعلِّم الناس الإسلام: "فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" (مسلم).
ثالثًا: -وحقه أن يكون أولًا-: الدعاء بالغنى والاستعاذة من الفقر: فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى" (مسلم)، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وفتنة القبر وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر..." (متفق عليه).
ثم وسائل محاربة الإسلام للفقر لا تكاد تنتهي، وقد جمعنا هنا عددًا من الخطب المنبرية التي تناقش هذه المشكلة؛ مشكلة الفقر، وتقدم الوسائل الناجعة لحلها، فتلك هي:
التعليقات