اقتباس
إن هناك فارقًا كبيرًا بين السياحة اليوم وسياحة سلفنا الصالح الذين رحلوا إلى الشرق والغرب، حاملين مشاعل الضياء والهداية لأمم حائرة، وأخذوا بأيديها لتبصر مواقع النور عبر الإيمان بالإسلام دين الله رب العالمين، ولم يبحث سلفنا الصالحون عما يبحث عنه اليوم شبابنا حال سياحتهم من جلوس على الحانات، وزيارة المراقص، وإنما تحركوا...
من الأمور السيئة التي تعاني منه أمة الإسلام اليوم: انقلاب المفاهيم، واستخدام الألفاظ في غير محالها، وتبديل الألفاظ الشرعية في معاني مرذولة، فإن لذلك آثارًا وخيمة على الأمة في عباداتها ومعاملاتها، وسلوكها.
ومن ذلك ورود لفظ السياحة في القرآن الكريم، فقد جاءت في سياق المدح لعباد الله الصالحين، فقال تعالى في وصف عباده المؤمنين: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ)[ التوبة: 112]، وقال الله -تعالى- في وصف النساء اللاتي يتزوجهن رسوله -صلى الله عليه وسلّم- فقال: (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً)[ التحريم: 5].
وقد تعددت أقوال العلماء في تفسير لفظة السياحة، فمنهم من فسّر السياحة بالسفر في طلاب العلم، الذين يرتحلون من أجله وينتقلون من أجله، ويشدون الرحال في طلبه، من أجل لقاء العلماء والتلقي عنهم والاستفادة منهم. قال عكرمة السائحون: "هم طلبة العلم"، استنباطًا من قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة: 122].
ومنهم من فسَّر السياحة بالجهاد في سبيل الله –تعالى-، إذ المجاهدون هم الذين يسيحون لأجل رافع راية الدين، وإعلاء كلمة المسلمين، وإزالة الذل والهوان عن عباد الله المستضعفين، إنهم يسيحون لبلوغ ذروة سنام الإسلام، ففي الحديث عند أبي داود عن أَبِي أُمَامَةَ: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ؟! قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلّم-: إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله -تعالى-"(رواه أبو داود: 2486، وصححه الألباني). وقال عطاء: السائحون: "هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله "( تفسير البغوي عند آية التوبة 112).
وفسرها بعض العلماء لفظة (السائحون) بأنهم كثيرو الصيام. فقد أخرج ابن جرير بسنده عن عبيد بن عمير قال: "سُئل النبي -صلى الله عليه وسلّم- عن السائحين فقال: هم الصائمون"(تفسير ابن جرير 11/ 28-29، عند تفسير الآية 112 من سورة التوبة). ومن أفضل وأجمع معاني السياحة هو السير في الأرض رغبة في تحقيق المطلوب الشرعي والبحث عنه، عبادةً لله وتقربًا إلى الله -تعالى-، ومن ذلك السفر للحج والعمرة وشد الرحال لزيارة المساجد الثلاثة التي ورد الحث على زيارتها، أو الغزو في سبيل الله أو نحو ذلك. فقد ثبت عند الترمذي في جامعه، أن النبي، -صلى الله عليه وسلم-، إذا قـَفـَل من غزوة، أو حج أو عمرة، كان مما يقول في دعائه: "آيبون تائبون عابدون سائحون لربنا حامدون،"(أخرجه مسلم 1342).
وقد استعمل الصحابة الكرام –رضوان الله عليهم- لفظة السياحة استعمالاً آخر بمعنى فرار المضطهدين من ديارهم وأرضهم لعبادة الله -سبحانه- في أرضه الواسعة، فقد ثبت في صحيح البخاري من قصة هجرة أبي بكر، -رضي الله عنه-، إلى الحبشة حيث لقيه ابن الدَّغـِنة فقال: "أين تريد يا أبا بكر؟" فقال أبو بكر: "أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي"، فقال ابن الدغنة: "إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج".. الحديث (صحيح البخاري 2175).
ومن هذا المعنى جاءت المقولة الذهبية المشهورة لشيخ الإسلام، ابن تيمية، -رحمه الله-، عندما اضطهد وامتُحن، فقال: "ما يفعل أعدائي بي؟ إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وتشريدي سياحة." ومعنى هذه الكلمة في عرف هذا العالم المجاهد أن ينتقل من بلد لآخر ناشرًا العلم الشرعي، معلمًا، لا ليلهو أو يعبث! فأين هذه المعاني الشرعية من هذه المعاني المستخدمة هذه الأيام؟!
أما قصر مفهوم السياحة هذه الأيام على الخروج من البلاد بحثًا عن الشواطئ الساحرة والبلاد البعيدة، حيث لا هيئة ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، حيث التحلل ومواقعة الآثام، فلم تكن هذه المعاني في عرف السلف الصالح وليست من الإسلام في شيء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما السياحة التي هي الخروج في البرية من غير مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة، ولهذا قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين"(اقتضاء الصراط المستقيم، ص 292).
لقد كان المسلمون قديمًا يحرصون على السياحة كل صيف، ولكنها لم تكن كالسياحة في عرف الناس اليوم، وإنما كانت جهادًا في سبيل الله، فيخرجون في كل صيف في غزو إلى بلاد الكفار، يدعونهم إلى دين الله -تعالى-،.. فكانوا يخرجون لهذه السياحة العظيمة فيعودون وقد أدخلوا أناسًا في الإسلام، وكبتوا الكافرين، وأرهبوا الأعداء المتربصين.
تلك كانت سياحتهم، وهذه برامجهم في استغلال الصيف في طلب العلم والجهاد والدعوة، هذه هي سياحة الأمة المسلمة في القرون المجاهدة، وتلك هي برامج للتنشيط السياحي حينها.. فماذا نفعل نحن في أيامنا هذه، حيث يعيش شبابنا بطالة وتضييعًا للأوقات وتهميشًا للصلوات، وارتكابًا للمحرمات، إلى آخر ما يقاسيه شبابنا تحت وطأة الفراغ والخواء، إلا من رحم الله -تبارك وتعالى-. إن صورًا كثيرة من سياحتنا هذه الأيام ليس فيها مراعاة لأحكام الشريعة الإسلامية، ولا يوجد في برامجها الدعوة إلى توقير شعائر الإسلام، وإنما صار أكبر همها نشر سمات السياحة على المفهوم الغربي الشهواني؛ إذ يعمل الشخص الغربي غير المسلم يعمل طوال العام، ويجمع المال حتى إذا جاء وقت الإجازة عطَّل عقله وتفكيره وأخلاقه، ثم ينطلق إلى عالم متحلل أخلاقيًّا يشبع شهوات بلا رقيب ولا حسيب.
إن هناك فارقًا كبيرًا بين السياحة اليوم وسياحة سلفنا الصالح الذين رحلوا إلى الشرق والغرب، حاملين مشاعل الضياء والهداية لأمم حائرة، وأخذوا بأيديها لتبصر مواقع النور عبر الإيمان بالإسلام دين الله -رب العالمين-، ولم يبحث سلفنا الصالحون عما يبحث عنه اليوم شبابنا حال سياحتهم من جلوس على الحانات، وزيارة المراقص، وإنما تحركوا لأغراض سامية وأهداف نبيلة، حرصوا خلالها على أن يخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلم وجور الأديان إلى نور وعدل الإسلام، فشتان بين سياحتنا وسياحتهم..
إنه لمن المحزن المبكي أن تصبح السياحة إلى بلاد الغرب المظلم عقائديًّا وإيمانيًّا موضع افتخار بعض المخدوعين من المسلمين، فهذا يفتخر أن ابتعث للدراسة هناك، أو أن له ولدًا يدرس في الدول الغربية، وهذا يتبجح بقضائه الإجازة كل عام متنقلاً بين شواطئ أوروبا وسهولها وجبالها دون تفكير في النتائج أو تقدير للعواقب، ثم إن هؤلاء إذا ذهبوا ذابت شخصياتهم مع الكفار، فلبسوا لباسهم، واقتدوا بآثارهم، حتى النساء المسلمات يخلعن ثياب الستر والعفاف ليلبسن لباس الغربيات!! إننا لا نحرم السفر والتنزه، ولا نمنع الترويح عن النفس، وإنما نحذر من أن السياحة تحولت في عرف الكثير من الناس إلى تفلت، وتحرر من الواجبات.. وارتكاب للمحرمات، وتعاطٍ للمسكرات والمخدرات، فضلاً عن السهرات مع النساء.. ومنهم من يسافرون عبر بوابات المطار، فيعودون عبر بوابات الإيدز والمخدرات، بل قد يعود بعضهم وقد انسلخ من عقيدته، وتمرد على دينه وأهله. نسأل الله السلامة والعافية.
ومن أجل بيان حقيقة السياحة والموقف الشرعي منها، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة تحذر من السلوكيات الخاطئة في السياحة، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال.
التعليقات