إن السفر الذي احتُسب فيه الأجر والثواب, وحُرص فيه على الطاعة وأنزه الآداب لهو بحق روضة للعقول, وبلوغ للأنس المأمول، وهو مَجْلاة للسأم والكلال، وبُعد عن الرتابة والنمطية والإملال، وفضاء رحب للاعتبار والادكار.

هذه بعض أحكام السفر وآدابه، من أخذ بها كان ممتثلا للسنة، مأجورا في أسفاره، مع ما يحصل له من الأنس والمتعة المباحة، ومن أعرض عنها استهانة بها فقد حرم نفسه خيرا كثيرا، ومن تركها جهلا فقد قصر في تعلم ما ينفعه.

من أعظم ما يكون سببا للإعجاب بالكفار ومذاهبهم وأخلاقهم وطرائق عيشهم مثل هذه الأسفار المشؤومة؛ حتى صارت المجاهرة بمديحهم علانية في الصحف وغيرها مع نهاية كل صيف، فكل كاتب معجب بهم، أقام صيفه في أحضانهم، يعود إلى بلده لينفث جهالاته وضلالاته على الناس، مدحا للكفار، وشتما في بلده وأهله، وهو يأكل من خيرهم؛ فما أجحده وما أنكره

إن الإنسان في بلده تقيده عما لا ينبغي فعلُه قيود كثيرة يتحرر منها في سفره، فلا يبقى إلا مراقبة الله تعالى، فظهور حفظ العبد لله تعالى وأوامره ونواهيه في السفر أكثر من ظهوره في الحضر؛ لتحرر العبد من القيود، وغياب الرقيب من البشر، فكان السفر امتحانًا للعبد في صدقه مع الله تعالى، ومراقبته له، وحفظه لأوامره ونواهيه ..

أبلغك خبر ذاك الذي ابتعد عن أهله فقلَّت غيرته، واختلى بالمعاصي، فمات وهو في أحضان عاهرة؟ وهل سمعت بخبر من مات وقد ملأ بطنه بالشراب المحرم؟ وما علمك بوباء الإيدز والأمراض الجنسية التي فتكت بالملايين ممن ولغوا في المحرمات...

عباد الله: إن ساكن هذه الدنيا له فيها سَفرتان عامتان: سفرة إلى جوانب هذه الدار لمآرب دينية أو لمآرب دنيوية، وسفرة إلى الدار الآخرة يلقى فيها جزاء ما قدم في رحلته الدنيوية حتى يصل إلى وطن القرار إما في الجنة، وإما في النار. إن..

وإذ كانت الأسفار، والتنقل في الأقطار، من أهم مقاصد الناس في مواسم الإجازة، فليكن حديثنا عن هدي خير من حل وارتحل، وسار ونزل؛ هلمَّ لنصحبَه -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره، فنتعرفَ على أحواله، ونتمثلَ بأقواله، ونأتسيَ بأفعاله.

كَانَتْ تِلْكَ بَعْضَ أَحْكَامِ السَّفَرِ وَآدَابِهِ، مَنْ أَخَذَ بِهَا كَانَ مُمْتَثِلاً لِلسُّنَّةِ، مَأْجُورًا فِي أسْفَارِهِ، مَعَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأُنْسِ وَالْمُتْعَةِ الْمُبَاحَةِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا اسْتِهانَةً بِهَا فَقَدْ حَرَمَ نَفْسَهُ خَيرًا كَثِيرًا، وَمَنْ تَرَكَهَا جَهْلًا فَقَدْ قَصَّرَ فِي تَعَلُّمٍ مَا يَنْفَعُهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ أسْفَارُهُ كَثِيرَةً.

والمسلم الذي ينظر إلى الآخرة في حلّه وترحاله يحرص على أن يكون سفرُه مرضياً لله؛ يقلبه بحسن مقصده من عادة إلى عبادة، فيحرص على أن يكون سفرُه مشروعاً أو مباحاً، فإن كان مباحاً قلَبَه بنيته الصالحة إلى سفرٍ يؤجر عليه، كما يفعلُ من وفَّقه اللهُ للسياحة المباحة -مثلاً -فينوي بسفره إجمامَ نفسه وأهل بيته، ودفعَ السأم عنها؛ لتنشطَ مرةً أخرى على الطاعة والعبادة، فيتحول سفرُه بهذه النوايا إلى أجور مضاعفة بسبب نيةٍ صالحة فحسب.

والسفر محفوف بمخاطر في الدين والدنيا؛ ولذا شرع له أدعية تحفظ المسافر من مخاطره. وإذا كان السفر لبلاد أهلها كفار ترجحت المخاطر، فإذا كانت الفواحش والمغريات فيها كثيرة كان على الإنسان خطر في دينه، وكم زل في هذه الأسفار من عقلاء؟ وكم ضاع فيها من حلماء؟! والمؤمن يجب أن يكون دائم الخوف على دينه، حريصا عليه، شحيحا في بذله؛ فإنه نجاته وفوزه.