عناصر الخطبة
1/ موقف الشريعة الإسلامية من السفر 2/ أحكام السفر 3/ الأسفار الممنوعة شرعًا 4/ أصناف المسافرين 5/ كيفية جعل السفر عبادة 6/ وصايا للمسافرين وآداب السفر 7/ آثار الأسفار السياحية على الصغار والكبار 8/ فتوى ابن تيمية في السياحة.اقتباس
والمسلم الذي ينظر إلى الآخرة في حلّه وترحاله يحرص على أن يكون سفرُه مرضياً لله؛ يقلبه بحسن مقصده من عادة إلى عبادة، فيحرص على أن يكون سفرُه مشروعاً أو مباحاً، فإن كان مباحاً قلَبَه بنيته الصالحة إلى سفرٍ يؤجر عليه، كما يفعلُ من وفَّقه اللهُ للسياحة المباحة -مثلاً -فينوي بسفره إجمامَ نفسه وأهل بيته، ودفعَ السأم عنها؛ لتنشطَ مرةً أخرى على الطاعة والعبادة، فيتحول سفرُه بهذه النوايا إلى أجور مضاعفة بسبب نيةٍ صالحة فحسب.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، ذي القوة المتين، أنيس الحاضرين والمسافرين، دليلِ الحائرين، وسلوةِ المؤمنين والوحيدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلَق الأمصار، وباعَد بين الأقطار، وكتب على الناس الأسفار.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضلُ من حل وارتحل، ومكث وانتقل، وسار ونزل، وأقام وسافر، وسكن وهاجر، ودلّنا على الخير في سفرنا وحضرنا، وإقامتنا وظعننا، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن مما جُبِل الناسُ عليه: السفر والتنقل، ولهم في ذلك أغراض متفاوتة: علاجاً أو تجارةً أو للعلم، أو لغيرها.
والشريعةُ الإسلامية جعلت الأصلَ في السفرِ الحلَّ والإباحةَ، ولم تمنع من الأسفار:
- إلا ما غلبت مفسدتُه على مصلحته: كالسفر إلى بلاد الكفر، إلا لحاجة ملحّة؛ كعلاج، أو طلب علم لا يوجد إلا بها، أو تجارة، ونحو ذلك مما هو مبثوث في كلام أهل العلم، وكل ذلك بشرط الأمن من الفتنة في الدين، فإنْ خيف على دِين الإنسان فيَحرم السفرُ مطلقاً، لأن الأصل حفظُ الأديان، والأبدان تبَع.
-ومن ذلك أيضاً: السفرُ الذي يتيقن الإنسانُ فيه أو يغلب على الظن ضررُه - إما في دينه أو بدنه أو ماله - كالسفر إلى الأماكن المخوفة قليلةِ الأمن، أو السفرِ إلى الأماكن التي تكثر فيها المنكرات، ويقل فيها الاحتساب.
أيها المسلمون: إن المتأمل في أصناف المسافرين؛ يجد أن كثيراً منهم فقدوا سرَّ التميز في أسفارهم، فأصبح نفعُ السفر قاصراً عليهم، بل ربما صار في سفر البعض ضرراً ونقصاً عليه في دينه أو دنياه.
والمسلم الذي ينظر إلى الآخرة في حلّه وترحاله يحرص على أن يكون سفرُه مرضياً لله؛ يقلبه بحسن مقصده من عادة إلى عبادة، فيحرص على أن يكون سفرُه مشروعاً أو مباحاً، فإن كان مباحاً قلَبَه بنيته الصالحة إلى سفرٍ يؤجر عليه، كما يفعلُ من وفَّقه اللهُ للسياحة المباحة -مثلاً -فينوي بسفره إجمامَ نفسه وأهل بيته، ودفعَ السأم عنها؛ لتنشطَ مرةً أخرى على الطاعة والعبادة، فيتحول سفرُه بهذه النوايا إلى أجور مضاعفة بسبب نيةٍ صالحة فحسب.
أيها الإخوة.. ومن مجالات جَعْلِ السفر عبادة: أن يكون فرصة لزيادة الإيمان، بالتفكر في مخلوقات الله تعالى، فإن المسافر لا تكاد تخطئ عينه من الوقوف على بعض المخلوقات الجميلة والعظيمة، والتي تدل على عظمة خالقها ومُوجِدها -جل في علاه-، في السماء نجوم وسحب، وفي الأرض سهول وجبال، بحار وأنهار، حيوانات وأشجار، حدائق غنّاء، أرضٌ فضاء، وفي السماء صفاء، مَنْ الذي أوجدها؟ من الذي أتقن صنعها؟ من الذي سخرها لنا؟
ويتحول السفرُ إلى عبادة حين يستشعر المسافرُ مسؤوليتَه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب القدرة والطاقة.
ويتحول السفرُ إلى دعوة حسنةٍ حينما يسافر الإنسانُ إلى مناطق تحتاج توعيةً وتبصيراً بأهم أحكام الإسلام، وعلى رأسها التوحيد، والصلاة وما يتعلق بها من طهارة؛ فيتحدث ويدعو إن كان عنده من العلم ما يشفع له، أو يصطحب معه في سفره ما يعينه على ذلك؛ من مطويات مفيدة، تناسب الجهةَ التي سيذهب إليها، فلعل الله أن ينفع.
وأضعفُ الإيمان أن يتعرف على بعض التطبيقات الذكية في هاتفه، ليُرشد من يقابلهم إلى الاستفادة منها، خاصةً في دعوة غير المسلمين الذين تختلف لغاتُهم عنا.
ويحْسُن بالمسافر -قبل سفره -أن يكتب وصيتَه، ويتأكد بل يجب كتابتُها إن كانت عليه حقوقٌ للعباد، فإن لم يكن عليه شيءٌ منها؛ فيستحب له ذلك، وينبغي أن يوصي ذريتَه وزوجتَه وأهلَ بيته بالتقوى، والثبات على الدين، وغيرها من الوصايا النافعة، فإن المسافر قد يذهب ولا يعود، والله المستعان.
ومما يَحسن -أيضاً-: توديعُ الأهلِ والأصحابِ بالمأثورِ من الأحاديث الواردة في هذا الباب، كأن تقول: استودع اللهَ دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك، ويقول المودِّعُ: زوّدك الله التقوى، وغفر ذنبك، ونحو ذلك.
فإذا شرع في سفره افتتحه بقراءة دعاء السفر المعروف، ولَنِعم السفرُ الذي يُسْتفتح بذكرِ الله تعالى.
وأخيراً: فإن السفر لا يعني التفلّت على أوامر الله! بل هو انتقالٌ من عبودية الله في الحضر إلى عبوديته في السفر، وقد قال الله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[الحديد: 4].
فعليك أيها المسافر أن تحفظ سمعَك وبصرَك وسائرَ جوارحك عما حرم الله، وهذا وإن كان مطلوبًا في الحضر؛ إلا أن الوصيةَ به في السفر تتأكد، لأنه مظنةُ التكشف، ولأن الإنسانَ إذا سافر خلا، وقد يؤويه المبيتُ إلى فندق أو شقة يجد فيها من القنوات الفضائية التي تبث الفجورَ والرذيلةَ ما يحتاج معه إلى جهادٍ ومجاهدة؛ إذْ لا رقيب إلا الله، ولا مُطّلعَ على خائنة الأعين وما تُخفي الصدور إلا الله.
رزقنا الله وإياكم خشيتَه في الغيب والشهادة، وتعظيمَ أمره ونهيه، وعصمنا وإياكم وسائرَ إخواننا المسلمين من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهنا وقفةٌ مع بعض إخواننا الذين استهواهم السفرُ بعوائلهم إلى بعض البلاد التي يجاهَرُ فيها بالمعاصي، ويروّج فيها للخمور أو الفجور، وتظهر فيها المنكراتُ بشكل معلن ومنظّم بل ومحمي من قوانين تلك البلاد!
ونحن نعلم أن الحجة الأساسية لأكثر هؤلاء هي: التمشية أو السياحة! ومن المعلوم أنه مهما كان حرصُ الوالدين على صيانة مَن معهم من المحاذير الشرعية التي تواجههم؛ إلا أن ضبط ذلك صعب، وإذا كان الإنسان هنا، وهو في مجتمعه الصغير المحافظ إلى حدٍّ ما، بل ربما في بيته قد لا يستطيع ذلك -مع أن أبناءه نشأوا في بيئةٍ تُعظّم كثيرًا من شعائر الإسلام، وتَقِل فيها المجاهرةُ بتلك المنكرات -فما الظن إذا كان الحالُ في تلك البلاد التي تُعلَم حالها؟!
إن المتأمل -بعين الإنصاف -في مثل هذه الأسفار سيجد أن فيها آثاراً سلبية -خاصة على الأبناء والبنات الصغار -وهذه الآثار قد لا تظهر في سنة ولا سنتين، ولا خمس، بل ربما بعد ذلك.
ولو لم يكن من هذه الآثار إلا وجود الصراع الفكري في أذهانهم وهم يرون بأعينهم، ويسمعون بآذانهم أموراً استقر في أذهانهم تحريمُها وإنكارُها -لا عادةً ولكن تحريمها بناء على الدليل من الكتاب والسنة-.
فيبدأ الصراع هنا: من الذي على حق؟ أهم أم نحن؟ ولماذا لا توجد هذه الأماكن في بلادنا؟ لماذا نحن محرومون منها؟ خاصة وأن بعض المنكرات التي يراها قد تميل إليها النفسُ الأمارة بالسوء، وهكذا تتوارد عليه أسئلةٌ قد لا تدري -أنت أيها الأب وأنتِ أيتها الأم -متى وأين وردت عليه؟ وقد يصارحك ببعضها، وقد لا يفعل، بل تبقى كالقنابل في صدره، لا يُدرى متى تنفجر؟
وثمة ضررٌ آخر خطير -وهو من أثر الصراع الفكري الذي يعيشه ذلك الابن أو تلك البنت -أنه إذا مالت نفسُه لهذا الجو الذي يعج بالمنكرات، فسيعود بنظرةٍ منقلبة عن مجتمعه المحافظ، بأنه مجتمع منغلقٌ مكبوتٌ، متخلفٌ...و.. إلخ تلك العبارات التي وراءها ما وراءها، وسمعناها من أناس سافروا هنا وهناك، مما يُخشى معه -والعياذ بالله -انسلاخٌ أو نفاقٌ، ويُخْشى معه أن يكون هذا المسافرُ -فيما بعدُ -أحد محاربي شعيرة الحجاب في بلادنا، أو ينادي بإقامة المراقص ودور السينما؛ مواكبةً لأكثر دول العالم! كما طالب ولا زال يطالب به أناسٌ كثيرون عبر بعض المنابر الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي!
واستمع -رعاك ربي -إلى هذا السؤال الذي وُجّه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث سُئل -رحمه الله- عن رجل يخرج للفُرْجة في الزّهْرِ في مواسم الفُرَجِ حيثُ يكون مَجمع الناس، ويرى المنكرَ ولا يقدر على إزالته، وتخرج امرأتُه أيضًا معه، هل يجوز ذلك؟ وهل يقدح في عدالته؟
فأجاب: "ليس للإنسان أن يحضر الأماكنَ التي يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار؛ إلا لموجب شرعي: مثل أن يكون هناك أمرٌ يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لا بد فيه من حضوره، أو يكون مكرهًا، فأما حضوره لمجرد الفرجة وإحضار امرأته تشاهد ذلك فهذا مما يقدح في عدالته ومروءته إذا أصر عليه، والله أعلم" (مجموع الفتاوى: 28/239). ا.هـ.
فإذا كانت هذه الفتوى صدرت قبل أكثر من سبعمائة سنة، يوم أن كانت المنكرات في الأمة الإسلامية محدودة، ويوم أن كان الحياء والستر غالباً في نساء الأمة، ولم تنتشر فيها ولا عُشر هذه المنكرات القائمةُ اليوم، إذا كان ذلك كذلك فما بالك بزماننا هذا؟!
والعاقل هو من نظر في عواقب الأمور، ولم يجعل نظره قاصراً على لحظاتٍ آنية في غفلةٍ عن المآلات، وأن لا تُنسيه شهوة المحاكاة للآخرين، وتقليدهم قولَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته"(البخاري ح: 2409)، مسلم ح: 1829)، وقوله أيضاً: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة"(البخاري ح:7151، مسلم ح: 142، واللفظ له).
اللهم أعذنا من مضلات الفتن، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم