اقتباس
ومع انقضاء عام هجري وبدء آخر جديد من عمر الإنسان، ينبغي أن يكون لنا في مرور الأيام عبرة، وأن نتزود لآخرتنا، وأن نحاسب أنفسنا على ما قدمنا وعلى ما فرطنا، ومن حاسب نفسه ربح، وتدارك نقصه...
بين الحياة والموت أنفاس تتردد، وساعات تنقضي، وآجال تنتهي، فالعمر لحظة، والحياة دقيقة، ولو نظر العاقل في حياته فلن يجد إلا الأمس واليوم والغد، والأمس لو تعلق الإنسان بالجبال لن يعود أبدًا، والغد غير مضمون أن نشهده ونحياه، فليس لك من عمرك إلا الآن، تلك الأنفاس، ليس لك من رأس مالك إلا اللحظة التي تحياها. قال أحمد شوقي:
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثواني
وصدق -رحمه الله-؛ فإن الإنسان يستطيع خلال دقيقة من عمره أن يحرك فمه المطبق بذكر ربه -سبحانه-، وفي خلال دقيقة من عمره يستطيع صلة رحمه بالهاتف، يستطيع في دقيقة صلاة ركعتي سُنّة، في دقيقة يستطيع الاستغفار ثلاثًا، في دقيقة يستطيع قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات، في دقيقة يستطيع الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر مرات فيصلي الله عليه مائة مرة...
في دقيقة يستطيع أن يوصي أخًا له بالمعروف وينهاه عن المنكر، في دقيقة يستطيع معانقة ولده، والمسح على رأسه وتقبيله، في دقيقة يستطيع الحنو على امرأته.. في دقيقة يستطيع مصافحة أخيه وجاره، والسلام عليه.. هناك كثير من الأعمال الصالحة لا تكلفك شيئًا، فلا يلزمك لها طهارة أو تعب أو بذل جهد، بل تقوم بها وأنت تسير في الطريق، أو تركب سيارتك، أو تستلقي على ظهرك أو تجلس تنتظر أحدًا، مثل ذكر الله -سبحانه- والتفكر في نعمه وآلائه، وتلاوة آياته، والتدبر فيها، ومحاسبة النفس على ما مضى، والاستغفار والتوبة... وغيرها الكثير، ولو أننا استطعنا بصدق أن نفعّل الحكمة التي نعلقها في بيوتنا ومحالّ أعمالنا وشوارعنا "اجعل أوقات الانتظار تسبيحًا واستغفارًا" لجعلنا أوقات الغفلة أزمانًا حية نجني منها الخير، ونغرس فيها النافع، وعندها سيكون الجزاء من جنس العمل. إن كثيرًا من الناس يفرح بانتهاء الشهور والأعوام، ورحيل الأيام، وما يدري المسكين أنها آجال مكتوبة، وأعمار محدودة، إن أحسن اغتنامها فاز وربح في الدنيا، وسعد في الآخرة. إن الغفلة عن الأعمار، والزهد في الأعمال الصالحة، وارتكاب الموبقات، يهلك العبد، ويضيع عليه أرباحًا طيبة، وقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الغفلة وإهدار الأعمار في غير الأعمال الصالحة، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"(صحيح البخاري 6412).
إن من الغبن ألا يقدّر الإنسان قيمة عمره، ولا يعرف أهميته، وقد وقع كثير من الناس في الغفلة عن التقدير الصحيح لقيمة الوقت، فترى أحدهم فارغًا عاطلاً يلهو بالساعات والأيام، غير عابئ بما يضيّع، فيقع في نزوات وبلايا وسيئات، وآخر يعمل معظم يومه وليله؛ يكدّ كدًّا عجيبًا، يعمل في عمل واثنين، لا يفيق من طاحونة الحياة. والثالث بلغ سن التقاعد يكاد الفراغ يقتله لا يجد ما يملأه به من عمل نافع، فالأول أضاع رأس ماله، والثاني قد غُبِن في وقته، والآخر غُبِن كثيرًا، وكذا في جانب الصحة فقد ينعم الله على إنسان بالصحة والعافية والرجولة فيستغلها في معاصيه لا مراضيه فهو مغبون، والآخر لا يجد قوة ولا يستطيع سبيلاً فيشعر بالغبن والضعف النفسي والجسدي.
إن على العبد أن يعمل في طاعة الله في صحته وعافيته، وليحذر أن يكون ممن جاء وصفهم في الحديث الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ!!"(سنن أبي داود 2865 وصححه الألباني).
فلا يمهل المرء ولا يهمل حتى إذا نزل به الموت فكّر في الصالحات، فيقول: أعطوا فلانًا كذا و... وصدق ربنا إذ يحذر من هذه الغفلة المطبقة فيقول: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنفقون:10-11].
وما أسوأ استحكام الغفلة حتى ينزل الموت بالعبد!! فيفيق من الغفلة عند الموت ويتمنى التزود من الصالحات وهيهات ... بعد أطبقت الغفلة سنين عددًا .. يجيء طالبًا العودة والأوبة ولا حرج على فضل الله، ولكن الموت ساعة مضروبة وآجال معدودة.. وكم من حسرات في بطون المقابر!! وفي مشهد رائع يوجّه النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجته أم حبيبة إلى شيء رائع في الدعاء؛ فقد قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ -رضي الله عنها-: اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبِأَبِي أَبِى سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لاَ يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ، وَلاَ يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ"(رواه مسلم: 2663).
وهذا توجيه رائع إلى ألا يغفل المرء في سائر أقواله وأعماله عن ما ينفعه، ولا يغفل في أشياء قد لا تفيده.. فهذه أم حبيبة لما انشغلت بالدعاء في أمور مقطوعة مقسومة وجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الانتباه إلى الأولى والأفضل في الأعمال... ومع انقضاء عام هجري وبدء آخر جديد من عمر الإنسان، ينبغي أن يكون لنا في مرور الأيام عبرة، وأن نتزود لآخرتنا، وأن نحاسب أنفسنا على ما قدمنا وعلى ما فرطنا، ومن حاسب نفسه ربح، وتدارك نقصه، وانشغل بعيبه، ومن لم يفعل وقع في الخسران والحرمان.
فهل ترانا نعود إلى ربنا؟! أم استحكمت الغفلة، وران على القلوب أقفالها؟! وأين نحن من صحابة نبينا؟! وتأمل ما ثبت عن ابْن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ"(رواه مسلم:3027)؛ فهل تتيقظ الأمة في عام جديد، وتئوب إلى ربها، وتثوب إلى رشدها، وتدع الذنوب التي تؤخر نصرها، وتشتت شملها، وتضعف قوتها؟!
ومن أجل تذكير المسلمين بذكرى مرور عام من أعمارهم، وبيان شيء من الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه المناسبة، والتحذير من بعض البدع المتعلقة بها، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضح أهمية محاسبة النفوس على ما فرط منها من أوزار خلال عام مضى، وآداب استقبال عام جديد، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم