اقتباس
وهنا أجد أنَّ من الأهمية بمكان أنْ أذكِّر إخواننا اللذين ابتلاهم الله بفقد والديهم؛ سواء أحدهما أو كلاهما؛ إن الذي ابتلاكم باليتم قد أوجب لكم من الرعاية والاهتمام ما يخفف عنكم آهات اليتم وجراحاته، مدركين أن اليتم...
يبتلي الله عباده المؤمنين في الحياة الدنيا بأنواع كثيرة من البلاء؛ حتى يعلم سبحانه مدى صبرهم وقوة إيمانهم به؛ ويختلف صعوبة الامتحان بدرجة ونوعية البلاء في حياتنا؛ فقد يكون في أشياء غير ضرورية في حياتنا لا يكون لها تأثير كبير في حياتنا ككل وهذا امتحان سهل، لكن منها ما لها تأثير كبير في حياتنا وتجعل منها حياة صعبة جدا؛ فكل دقيقة تمر وكل يوم يمر يكاد الإنسان يشعر بالانهيار من صعوبة العيش مع هذا الابتلاء، وإن من أعظم ابتلاءات الحياة الدنيا فقد الأولاد لأبويهم أحدهما أو كلاهما في الصغر؛ فيعيشون في يتم وحزن ومشقة وعناء.
غير أن رحمة الذي أنزل هذا البلاء جعل في ذلك حِكَما يعلمها -سبحانه-؛ تجلت في اهتمام الإسلام باليتيم ورعايته له، وحثه المجتمع المسلم على القيام بواجبه نحوه؛ رعاية وقربا وإحسانا، ورتب على ذلك أجورا عظيمة وفضائل حميدة، وهذه الرعاية التي أولاها الشرع الحنيف لم تأت بها شريعة من الشرائع ولا دين من الأديان، ومما يؤكد على ذلك، أن الله -تعالى- قرن الإحسان إليه بعبادته وتوحيده؛ حيث قال في محكم التنزيل: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ)[النساء: 36].
ولم تقتصر توجيهات الإسلام فيما يخص اليتيم العناية به ورعايته والقيام عليه فحسب؛ بل حذر من الإساءة له أو الاعتداء على حقوقه، وسنقف على بعض صور ومظاهر ذلك الاهتمام والرعاية: كفالته ورعاية: رعاية شاملة؛ جسدية وروحية وفكرية، حسية ومعنوية؛ فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا"، "وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا"(رواه البخاري). يقول ابن بطال -رحمه الله- معلقا على هذا الحديث العظيم: "حَقُّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ يَسْمَعُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَرْغَبَ فِي العَمَلِ بِهِ؛ لِيَكُونَ فِي الْجَنَّةِ رَفِيقًا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِجَمَاعَةِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ -صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمِ أَجْمَعِينَ-، وَلَا مَنْزِلَةَ عِنْدَ اللهِ فِي الآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ مُرَافَقَةِ الأَنْبِيَاءِ". ومن صور ذلك ومظاهره: الإنفاق على اليتيم، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[البقرة:215].
إصلاح أحوالهم والوقوف إلى جانبهم، قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)[البقرة: 220]. حفظ أموالهم واستثمارها والحرص عليها، قال سبحانه: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)[النساء: 6] حرمة التصرف في أموالهم بغير حق، قال الله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)[الأنعام: 152]، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النساء: 10].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اجْتَنبوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، والسِّحْر، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ"(متفق عليه)، بل إن الله -جل شأنه- توعد من يأكل أموال اليتامى بالنار، فقال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النساء: 10]. تحريم الإساءة إلى اليتيم وقهره، قال تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)[الضحى: 9]، وأخبر أن الإساءة لليتيم بشتى صورها من سمات المستكبرين، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)[الماعون: 1- 2]؛ قال ابن سعدي -رحمه الله-: "أي، يدفعه بعنف وشدة، ولا يرحمه لقساوة قلبه، ولأنه لا يرجو ثوابًا، ولا يخشى عقابًا".
وهنا أجد أنَّ من الأهمية بمكان أنْ أذكِّر إخواننا اللذين ابتلاهم الله بفقد والديهم؛ سواء أحدهما أو كلاهما؛ إن الذي ابتلاكم باليتم قد أوجب لكم من الرعاية والاهتمام ما يخفف عنكم آهات اليتم وجراحاته، مدركين أن اليتم لم يكن يوما عيبًا أو نقصا في الإنسان أو عذرا للإخفاق في الحياة، كما أن اليتم ليس سببا للتأخر أو قاضيًا على النهضة والتقدم؛ فكم من يتيم عاش بخير ونال ما نال من الخير بفضل الله. فهذا سيد الأولين والآخرين وهو خير من وطئت قدمه الثرى، يقول الله له مذكرًا نعمه عليه: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)[الضحى:6-8]، حيث توفي أبوه عبد الله وهو -صلى الله عليه وسلم- حمل في بطن أمه، وتوفيت أمه وهو في السابعة من عمره، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره، وكفله عمه أبو طالب، وما زال ينشأ حتى إذا بلغ أشده أوحى الله إليه، وكلفه بهذه الرسالة العظمى، التي أشرقت بها الأرض بعد ظلماتها، وتآلفت القلوب بعد شتاتها، وأنار الله به البصائر، وأخرج به الأمة من الظلمات إلى النور -فصلوات الله وسلامه عليه-، وحسب اليتامى أن إمام المرسلين نشأ يتيما، ولله در القائل:
قَالُوا الْيَتِيمُ فَمَاجَ عِطْرُ قَصِيدَتِي *** وَتَلَفَّتَتْ كَلِمَاتُهَا تَعْظِيمًا
وَسَمِعْتُ مِنْهَا حِكْمَةً أَزَلِيَّةً *** أَهْدَتْ إليَّ كِتَابَهَا الْمَرْقُومَا
حَسْبُ الْيَتِيمِ سَعَادَةً أَنَّ الَّذِي *** نَشَرَ الْهُدى فِي النَّاسِ عَاشَ يَتِيمًا
وقد أبرز التاريخ سطوع ثلة من الأيتام الذين أثبتوا أن اليتم ليس مانعا من النبوغ وتحصيل أعلى المراتب؛ فكم سطَّر التاريخ من العلماء الأعلام والشعراء والعباقرة والشخصيات المؤثرة! بل كم من القادة والخبراء اللذين غيروا مجرى التاريخ بإرادتهم وعزيمتهم التي تناطح الجبال الرواسي! فهذا أبو هريرة -رضي الله عنه-: نشأ يتيما؛ وكان يرعى لقومه الغنم، حتى وفقه الله لصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكان راوية الإسلام. وهذا الزبير بن العوام -رضي الله عنه-: الذي عده عمر بن الخطاب رضي الله عنه- بألف فارس، وليس له، إلا أمه صفية -رضي الله عنها- بعد وفاة والده وهو صغير. وهذا إمام الدنيا محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله-: مات والده وهو دون العامين؛ فنشأ في حجر أمه في ضيق من الحال وقلة من العيش؛ فحفظ القرآن الكريم وجالس أهل العلم في صباه حتى ساد أهل زمانه.
وهذا تلميذ الإمام الشافعي أحمد بن حنبل -رحمهما الله- جميعا: فقد توفي والده وهو في بطن أمه، وعاش في فقر وفاقة؛ فحضنته أمه وأحسن تربيته وتأدبيه؛ حتى أصبح عالما فذا، وحفظ الله به العباد في الفتنة.
ونختم هذه النماذج الرائعة التي خلَّد التاريخ أسماءها بالحافظ الفذ محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله-: الذي قال أهل العلم عن كتابه الصحيح؛ أنه أصح كتاب بعد كتاب الله -عز وجل-؛ وقد نشأ يتيما وقرأ على ألف شيخ؛ حتى أصبح عمدة المحدثين في زمانه ومن جاء بعده إلى يوم القيامة.
أيها المسلمون: تلكم عناية الإسلام باليتيم التي سبقت ما يسمى باليوم العالمي لليتيم بعشرات القرون؛ فلم تجعل له شريعة الإسلام يوما للاحتفاء به ولا مناسبة عابرة، بل أوصت بالاهتمام به في سائر الأيام والأحوال، والمسلم مطالب شرعا ومجتمعا وعرفا أن يساهم في تخفيف معاناة اليتامى ويساعدهم في تحقيق مصالحهم؛ ليعيشوا كغيرهم من أبناء المسلمين في أمن ورخاء وسعادة وهناء.
خطباؤنا الكرام: ها نحن وضعنا بين أيديكم إشارات سريعة في هذه المقدمة حول عناية الإسلام باليتيم وحثه على رعايته، مع انتقاء ثلة من الخطب، راجين لكم التوفيق والسداد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم