اقتباس
إن من يتدبر القرآن ويتأمل فيه يجد أن الماء ملازم للإنسان في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وبه تكون حياته وهلاكه ونعيمه وعذابه؛ ففي الحياة الدنيا لا حياة له بدون ماء؛ فمنذ أول وهلة من تاريخ البشرية تجد أن الأحياء على هذه الأرض تتبع مواقع...
نعمة هي من أجل النعم ومنة من أعظم المنن وآية من أكبر الآيات والسنن؛ بها تدوم الحياة وتعيش جميع الكائنات؛ فلا غنى لمخلوق عنها، ولا عيش لهم بدونها، إنها النعمة التي ذكرها الله -تعالى- في كتابه العزيز وربط حياة كل شيء بها؛ فقال: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)[الأنبياء: 30]، وقال متفضلاً على عباده بها: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة: 68- 70].
ولقد حظيت هذه النعمة أهمية كبيرة وعناية بالغة؛ فقد ذكرها الله في كتابه العزيز في (63) موضعا، ومن يتدبر القرآن ويتأمل فيه يجد أن الماء ملازم للإنسان في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وبه تكون حياته وهلاكه ونعيمه وعذابه؛ ففي الحياة الدنيا لا حياة له بدون ماء؛ فمنذ أول وهلة من تاريخ البشرية تجد أن الأحياء على هذه الأرض تتبع مواقع الماء ومواطنه، وتفارق مناطق الجفاف.
ولقد سطر التاريخ أن حضارات البشر شُيدت على ضفاف الأنهار، وقطرات الأمطار، وسواحل البحار؛ فقد كان البدو يرحلون بأنعامهم مواقع الماء والكلأ، ويقيمون فيها إلى أن تجف؛ فيرحلون منها إلى غيرها، فكانت مواضع المياه عامرة، كما كانت الصحاري الجافة خالية؛ إذ أن في الماء شراب الإنسان وقوام حياته، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)[الفرقان:48- 49]، ويقول في موضع آخر: (فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ)[الحجر: 22].
لم يكن الماء مجرد شراب للكائنات فقط، بل به نبت كل شيء ومنه الشجر الذي يخرج منه الثمرات والبركات: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ)[إبراهيم: 32]، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ)[طه: 53، 54]، (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)[الذاريات: 22].
وقد كان الحسن البصري رحمه الله- إذا نظر إلى السحاب، يقول: "فِيهِ وَاللهِ رِزْقُكُمْ وَلَكِنَّكُمْ تُحْرَمُونَهُ بِخَطَايَاكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".
ويقول رب -العزة والجلال- في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)[النحل: 10-11].
بل إن الماء مصدر ابتهاج الإنسان وسعادته، وهو يرى اخضرار الأرض بعد هطول الأمطار وغشيان السيول عليها، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْض مُخْضَرَّةً)[الحج: 63]، ويزداد ابتهاجا بالنظر إلى ربيعها وحدائقها الغناء، كما وصفها الله بقوله: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ)[النمل: 60].
بل الأعظم من ذلك والأهم أن الماء من دلائل وجود الله وشواهده على وحدانية الله -تعالى- سواء نزوله من السماء أو اختصاصه بأرض دون أرض، ففي ذلك دلائل على وحدانية الله وقدرته، وصدق القائل:
فَوَاعَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَه *** أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الجَاحِدُ
وَلِلَّهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ *** وَتَسْكِينَةٍ أَبَدًا شَاهِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وقال الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الروم: 24]، أو خروجه من باطن الأرض بطعم مختلف رغم أنها منطقة واحدة إما عذب فرات أو ملح أجاج.
عباد الله: هذا نعيم الإنسان بالماء في هذه الدنيا أما في الآخرة؛ فإن المؤمن ينعم به في العرصات وموقف الحساب حين يشتد بالناس الظمأ والعطش؛ فيكرم الله البعض بالورود على حوض الرسول الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه-؛ فيشرب حتى يرتوي ولا يظمأ بعد تلك الشربة أبدا، وتغدو كل شربه بعد ذلك للذة لا من عطش.
ويلازم الماء عباد الله المؤمنين حتى دخول الجنة؛ فيجدون فيها الأنهار والعيون العذبة ذات الحسن والبهاء، يقول رب الأرض والسماء: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ)[محمد: 15]، وقال سبحانه: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ)[المرسلات:41].
وأخبر عن بعض أصناف الماء في الجنة؛ فقال: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا)[الإِنْسَان: 17- 18]، وقال أيضا: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)[الإِنْسَان:6].
فكان جريان الماء وتدفق الأنهار بالنسبة لهم نعيما آخر ومنظرا ملفتا وجمالا مفضلا لأهل الجنة وهم على أرائكهم متكئون ومتقابلون، قال الله: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا)[الزمر: 20].
عباد الله: أما كيف يكون لونا من ألوان العذاب والهلاك؛ فهذا حاصل في الدنيا الآخرة؛ ففي الدنيا يعذب الله به أقواما، فيمسكه عنهم حتى يموتوا ضمأ وجوعا، أو أن الله -تعالى- يغرق به من شاء من عباده المستكبرين في الأرض المعاندين لدينه وشرعه ورسله، كما أغرق الله قوم نوح -عليه السلام-: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْض عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ)[القمر: 11- 13]، وقال في موضع آخر: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)[الحاقة: 11]؛ فإن للماء قوة إذا تدفق لا يحبسها حابس، ولا يمنعه شيء، ولا يرده عن مجراه راد، حين يتخلى لطف الله على من عصاه واستكبر واتبع هواه؛ فيقتلع البنيان، ويزلزل الجبال والوديان.
وأما في الآخرة؛ فإن الله قد توعد به أهل الزيغ والاستكبار اللذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار؛ فإنهم يذادون عن الحوض المورود؛ فيشتد بهم العطش والظمأ في ذلك اليوم العصيب الملتهب؛ بين حرارة الشمس المحرقة التي دنت على رؤوسهم، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ".. أَنا فرطُكُم على الحوضِ، ثمَّ قالَ: ليُذادنَّ رجالٌ عن حوضي، كما يذادُ البعيرُ الضَّالُّ، فأُناديهم: ألا هلمُّوا فيقالُ: إنَّهم قد بدَّلوا بعدَكَ، ولم يزالوا يرجعونَ على أعقابِهِم، فأقولُ: ألا سُحقًا، سُحقًا"(الألباني صحيح ابن ماجه ٣٤٩٤).
ويستمر حالهم -كذلك- حتى يساقون إلى النار؛ وفيها يشربون الحميم المغلي والمخلوط بعصارة أهل النار وأقذارهم، فيحيط بهم من كل جانب إضافة إلى ما هم فيه من ألوان العذاب الأخرى وصوره، كما قال سبحانه وتعالى: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ)[الواقعة: 92 - 94]، (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)[الرحمن:43-44]؛ فيستغيثون ربهم وهم في ذلك الحال العصيب؛ فيغاثوا بما يشوه الوجوه والأبدان ويزيد العناء والأحزان، قال سبحانه: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ)[الكهف: 29].
وهذا الماء كما يقول أهل التفسير: "كالدم والقيح"، ولا شك أن المهل يجمع أوصاف الرذيلة كلها؛ فهو أسود منتن غليظ حار يشوي الكافر حتى يسقط جلد وجهه فيه، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : "ماء كالمهل"، قال: "كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه".
أيها المسلمون: مما سبق تبين لنا أهمية هذه النعمة وضروريتها بالنسبة لكل كائن؛ لذا يجدر أن نشير بعض الإشارات حول كيفية رعاية هذه النعمة من المبذرين وحفظها من المسرفين، حتى نحذر موجبات عذابها وننال خيرها وبركتها في الدنيا والآخرة، ونوجز ذلك فيما يلي:
الإشارة الأولى: وجوب حفظ نعمة الماء بشكر المنعم بها؛ إذ بشكره تدوم النعم، بل وتزداد، كما قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
كما ينبغي أن نطلبها بالاستغفار والتوبة إلى الله بالليل والنهار، قال سبحانه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10 – 12]، كما نجلبها بتحقيق تقوى الله -عز وجل-، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ)[الأعراف: 96].
ولله در القائل:
تعلَّم بني فإن المياه *** نعيش بها نعمة هانية
فخصّه ربي بسرّ الحياة *** به تجرى أنفاسنا الجارية
فصار لزاماً شكر الإله *** ليحفظه نعمة غالية
الإشارة الثانية: عدم الإسراف فيها واستخدامها فوق الحاجة إليها؛ فذلك منافٍ لمحبة الله، (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]، بل موجب للإخوة الشيطانية، قال -سبحانه:- (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[الإسراء:26- 27].
وفي حديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ -ﷺ- مرَّ بسعدٍ وهو يتوضأُ فقال: "ما هذا السَّرفُ يا سعدُ قال أفي الوضوءِ سرفٌ قال: نعم وإن كنتَ على نهَرِ جارٍ"(الألباني السلسلة الصحيحة).
هذا بالنسبة لموقفه -صلى الله عليه وسلم- من الإسراف في الماء، أما هديه في استعماله في طهارته؛ فقد ورد من حديث سفينة أبي عبدالرحمن مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: إن النبيَّ -ﷺ- كان يَتَوضَأُ بالمُدِّ، ويَغْتسِلُ بالصَّاعِ"(صححه الألباني).
ففي هذه النصوص يتجلى النهي عن الإسراف والتحذير منه، بل وتوبيخ المسرفين بتشبيههم بالشيطان، فلنرع لهذه النعمة حقها ولنتمثل تلك الوصية التي قال صاحبها فيها:
إذا الماء يوما أفاض عطاه *** وصارت به أرضنا زاهية
تدفق شلاله من علاه *** تلين به أرضنا القاسية
فحافظ بني رعاكَ الإله *** ولو أن أنهاره جارية
فمن يهدر الماء كان جزاه *** عذاباً على نفسه الجانية
الإشارة الثالثة: رسالة للأمة بمناسبة اليوم العالمي للمياه، افتخروا بدينكم الذي ما ترك خيرا إلا ودلكم عليه، ولا شرا إلا وحذركم منه، ولقد سبق قرآن ربكم هذه المناسبة بعشرات القرون حيث أرشد إلى حسن استعمال المياه، وعدم الإسراف فيها؛ فإن ما جاء في كتاب الله العزيز كاف لرفع مستوى الوعي حول هذه النعمة؛ لأن ما حواه هذا الكتاب ليس مجرد اجتهادات وتوصيات مؤتمر من المؤتمرات أو اجتماع من الاجتماعات؛ ولكنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ إضافة إلى أن الذي تحدث به هو الذي خلق الماء وله الملك والكبرياء، وهو أحكم الحاكمين.
خطباؤنا الفضلاء: مقدمة يسيرة عن هذه النعمة العظيمة مع عدد من الخطب المنتقاة؛ نرجو أن تجدون فيها بغيتكم للحديث عن أهمية الماء وسبل المحافظة والحصول عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم