نعمة الماء الطهور

صالح بن عبد الرحمن الخضيري

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: الخلق والآفاق
عناصر الخطبة
1/ نعم الله الظاهرة والباطنة وشكر الله عليها 2/ نعمة المطر وأهميته 3/ بعض الآداب المشروعة عند نزول المطر 4/ بعض الأمور المحظورة عند نزول المطر 5/ بعض مظاهر قدرة الله ودلائل عظمته في نزول المطر

اقتباس

هذا الماء النازل من السماء سبب الرزق والبركات، قال الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ) [غافر: 13]. سماه في القرآن: ماءً مباركا، وسماه: ماءً طهورا، فمنه يتطهر الناس ويغتسلون، ويشربون، وينتفعون بأنواع من...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى عليه الله وملائكته والمؤمنون وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

 

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.

 

وتذكروا ما أنعم الله -عز وجل- به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة، وكونوا من الشاكرين، فمن أحب أن تدوم النعم وتزداد، فليشكر الله -عز وجل-: (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: 12]، قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، وقال سبحانه: (وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7]، قال بعض السلف: "الشاكر هو الذي يعلم أن النعمة من الله -تعالى- أعطاه إياها لينظر كيف يشكر وكيف يصبر"، وقال عون بن عبد الله: "الخير الذي لا شر فيه الشكر مع العافية فكم من منعم عليه غير شاكر وكم من مبتلى غير صابر".

 

أيها المسلمون: من نعم الله -عز وجل- عليكم: ما فتح لكم من رحمته حيث أنزل على أرضكم ماءً طهورا وغيثا مباركا، واستجاب -جل وعلا- رحمة منه، استجاب الدعوات على تقصير العباد، أنشأ -جَل جلاله وتقدست أسماؤه- لنا سحبا تحمل الماء الثقال، فروت أرضنا، وسرت نفوسنا، قال العلي القدير -جَل جلاله-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت: 39]، عن سعد بن أبي وقاص -رَضي الله عنه- عن النبي -صَلى الله عليه وسلم-: قال: "إن الله -عز وجل- ينشأ السحاب، فينطق أحسن المنطق، ويضحك أحسن الضحك" [رواه الإمام أحمد]، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إذا جاء القطر من السماء تفتحت له الأصداف، فكان لؤلؤا".

 

هذا الماء النازل من السماء سبب الرزق والبركات، قال الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ) [غافر: 13].

 

سماه في القرآن: ماء مباركا، وسماه: ماءً طهورا، فمنه يتطهر الناس ويغتسلون ويتوضؤون ويشربون، وينتفعون بأنواع من المنافع: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) [الواقعة: 68 - 70]، وقال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) [الفرقان: 48 - 50]، وقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) [السجدة: 27].

 

أيها المسلمون: من الآداب الشرعية عند نزول المطر وما يصحبه من رعد إذا سمع الإنسان صوت الرعد، قال: "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته" [رواه الإمام مالك بسند صحيح موقوفا على ابن الزبير]، وقال علي وابن عباس -رضي الله عنهما- وأكثر المفسرين: "الرعد اسم ملك من الملائكة يسوق السحاب بأمر الله"، وروى الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أتت اليهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فسألوه عن الرعد ما هو؟ قال: "ملك من الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق من نور يسوق بها السحاب حيث شاء الله -تعالى-" قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: "زجره السحاب يزجره إلى حيث أمره" قالوا: صدقت، فإذا نزل المطر دعا العبد، بقوله: "اللهم صيبا نافعا" [رواه البخاري]، ويقول أيضا: "مطرنا بفضل الله ورحمته" [رواه البخاري ومسلم].

 

فسبحان ملك الملوك القادر المقتدر الذي خلق السحاب وأنشأه، وسخره بين السماء والأرض، وحمله الماء الثقيل، ثم أنزله حيث يشاء: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: 12 - 13]، كان أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك ينظر إلى السماء فاجتمع السحاب، ثم أرعدت السماء والبرق، ونزل المطر الغزير في الحال، فقال سليمان لمن عنده: هذا والله الملك.

 

أيها المسلمون: وليس القحط والجدب أن ينحبس المطر من السماء، بل لربما نزل المطر ولم تنبت الأرض شيئا، وهذا ما عناه النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بقوله: "لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا" [رواه مسلم]، وفي كتاب الله: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) [الطارق: 11 - 12]، قال عكرمة: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ) ترج بالمطر ، (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) تصدع بالنبات"، قال عز وجل: (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) [النبأ: 14 - 16]، والمعصرات هي السحاب تعتصر بالمطر والسجاج المنصب بكثرة على جهة التتابع، فلربنا الحمد بأن رحمنا، وساق إلينا سحابا سجاجا، وفتح لنا من رحمته أبوابا مع ما نحن عليه من الذنوب والخطايا.

 

أيها المسلمون: الواجب عند نزول الغيث مع حمد الله والثناء عليه والشكر له: أن يحذر الإنسان من النزول في الأودية السحيقة والجارفة لئلا يعرض حياته للخطر، ويلقي بنفسه إلى التهلكة، أو سيارته للتلف، كما يفعله بعض المتهورين، قال عز وجل: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195]، وقال سبحانه: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29].

 

ومثل ذلك ما يفعله بعض الشباب فوق الرمال من الإضرار بأنفسهم وبغيرهم، فكل هذا محرم لا يجوز كما يجب على المتنزهين، ومن يخرجون إلى الصحراء حفظ حرمات المسلمين، وتنظيف المكان عند الانصراف منه، والحذر من الإسراف، وبطر النعمة، والحذر من تأخير الصلوات أو تضيعيها أو العبث بالرمال، وإفساد الأرض التي تهيأت للنبات بالعبث بالسيارات، أو الدبابات، أو غيرها مما يذهب زينة أرضنا، وما جملها الله -تعالى- به، وليتذكر الإنسان دائما وأبداً نعم الله المتوالية من أمن وارف، وعيش رغيد، وأن يعتني عناية تامة بهذه الصلوات الخمس المفروضة، وأن يعظم شأنها، فهي شعار الإسلام وركنه الأعظم بعد الشهادتين.

 

ألا فهنيئا لكل عبد شكور، وويلا لمن بدل نعم الله كفرا، وتهاون بفرائضه، وما أوجبه عليه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر: 3].

 

اللهم اجعلنا من الشاكرين الذاكرين، ربنا أوزعنا أن نشكر نعمك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحا ترضاه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبد الله ورسوله سيد البشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فإن عظمة الله -عز وجل- وإنعامه على عباده ظاهرا في كل ما يمر بالناس في حياتهم عظمة في خلق السموات وما فيها من أبراج وأفلاك وشمس وقمر، وعظمة في خلق الأرض وما فيها من جبال وسهول وأودية وبطاح وبحار وأنهار وأنواع الشجر والثمار والزروع والحيوان.

 

مخلوقات في البر وكائنات في البحر لا يعلمها ولا يحصيها ولا يرزقها إلا خالقها تبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره، سبحانه وبحمده.

 

ومن مظاهر قدرته العظيمة ودلائل نعمته على عباده: هذه المياه التي يرزقها عباده بأمر السحاب، فيأمر جل وعلا السحاب فيجتمع، ثم يسير بأمره جَل جلاله إلى ما أراد من أرضه، ثم ينزله غيثا مباركا -كما سمعتم- وهو سبب للرزق والبركات.

 

ألا وإن من أجمل لحظات عيش الإنسان في الدنيا: لحظات نزول المطر، بل لا تكاد توجد صورة في الدنيا أجمل من نزول الغيث من السماء، ولا سيما مع حاجة الناس والحيوان والأرض إلى الماء.

 

عمليات تتم لنزول هذا الغيث المبارك من إنشاء السحاب، وإدارة البرق وتسبيح الرعد: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) [الرعد: 13].

 

وإن من طرق القرآن في الاستدلال على ربوبية الله -جَل جلاله-: لفت الأنظار  إلى قيمة هذا الماء، واحتياج الخلق إليه، وامتنان الخالق -جَل جلاله- بإنزاله، ومن ثم تقرير ربوبيته، ولزوم توحيده: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22]، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) [السجدة: 27]، (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت:63]) (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل: 60]، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [لقمان: 10 - 11]، فالملاحظ في الآيات السالفات أن الامتنان بنعمة الغيث يعقبه التذكير بلزوم التوحيد لله -جَل جلاله-.

 

فاعبدوه واشكروه كثيرا يزدكم من فضله، ويجزكم الجزاء الأوفى: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 145].

 

 

المرفقات

الماء الطهور

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات