اقتباس
وعلى جميع هذه المعاني فإن البغي كله شر وقبح ووبال على صاحبه في الدنيا والآخرة، فعن أبي بكرة -رضي الله عنـه- قال: قال رسول الله -صـلى الله عليه وسلم-: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم...
في آية من آيات الكتاب الحكيم يُعَدِّد الله -عز وجل- بعض ما حرَّم على عباده فيقول -عز من قائل-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33]، وكل تلك المحرمات واضحة بينة ظاهرة معلومة، ولكن ما هو المقصود بـ"البغي" الذي هو عنوان هذه المختارة؟
ونجيب: البغي في اللغة هو: التعدي والاستطالة ومجاوزة الحد... ثم هو يشمل عددًا من القبائح والرذائل، ففي الآية السابقة البغي هو مجاوزة الحد في الظلم.
والبغي أيضًا هو التعدي على طاعة إمام المسلمين والخروج عليه، يقول البركتي: "البَغْي: مصدر، وهو الخروج عن طاعة الإمام الحقّ"(التعريفات الفقهية، للبركتي)، ويقال: قتال أهل البغي، والمقصود بـ"أهل البغي" هنا: هم الظلمة الخارجون عن طاعة الإمام، المعتدون عليه، قال الله -عز وجل-: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ)[الحج: 60]، ومنه كذلك قوله: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى)[الحجرات: 9]، أي اعتدت وجارت(ينظر: الزاهر، لأبي منصور الأزهري)، فالبغي هنا هو الاستطالة والظلم وإباء الصلح.
ومن معاني البغي: مجاوزة حد الطاعة إلى المعصية: يقول الله -تعالى-: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)[يونس: 23]، يقول الخازن: "(يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يعني: أنهم أخلفوا الله ما وعدوه، وبغوا في الأرض؛ فتجاوزوا فيها إلى غير ما أمر الله به من الكفر والعمل بالمعاصي على ظهرها"(تفسير الخازن).
ومن معاني البغي: الحسد؛ يقول -تعالى-: (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)[الجاثية: 17]، يقول القرطبي مفسرًا: "(بغيا بينهم): أي حسدًا على النبي -صلى الله عليه وسـلم-"...
ومن ذلك سُميت الزانية بغيًا لأنها جاوزت حد العدالة والاستقامة والعفاف إلى الفجور والفسوق! وفي محكم التنزيل أنهم قالوا لمريم: (وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)[مريم: 28]، وكذلك يقال للزنا: بغاء، قال -تعالى-: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ)[النور: 33](ينظر: بصائر ذوي التمييز، للفيروزآبادى).
***
وعلى جميع هذه المعاني فإن البغي كله شر وقبح ووبال على صاحبه في الدنيا والآخرة، فعن أبي بكرة -رضي الله عنـه- قال: قال رسول الله -صـلى الله عليه وسلم-: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صـلى الله عليه وسلم-: "ليس مما عصي الله به هو أعجل عقابًا من البغي..."(رواه البيهقي في الشعب، وصححه الألباني).
وكلما زاد تمادي الباغي في بغيه كلما ازداد بغض الله -تعالى- له؛ فعن جابر بن عتيك أن نبي الله -صلـى الله عليه وسلم- كان يقول: "...وإن من الخيلاء ما يبغض الله، ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي"(رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
وكل من بغى وتجبر وظلم من إنسان أو طير أو حيوان فإن الله -عز وجل- منتقم منه ومعاقبه، وهذان نموذجان حيان واقعيان يقدمهما لنا أبو عبيد معمر بن المثنى قائلًا: "كان أول بغي كان في قريش بمكة أن المقاييس، وهم بنو قيس من بني سهم، تباغوا فيما بينهم، فبعث الله -عز وجل- فأرة على ذبالة فيها نار فجرتها إلى خيام لهم فاحترقوا، ثم كان ظلم وبغي بني السباق بن عبد الدار بن قصي، فبعث الله عليهم الفناء"، ويقول حبر الأمة ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لو بغى جبل على جبل لجعل الله -عز وجل- الباغي منهما دكًا"(ذم البغي، لابن أبي الدنيا).
وعن أشهب التميمي قال: "كانوا يقفون في الجاهلية بالموقف فيسمعون صوتًا من الجبل: البغي يصرع أهله ويحلهم *** دار المذلة والمعاطس رغم
فيطوفون بالجبل فلا يرون شيئًا، ويسمعون الصوت بذلك"(ذم البغي).
***
ومن الغيب الذي أطلع الله -عز وجل- عليه رسوله محمدًا -صلـى الله عليه وسلم- أن البغي سيظهر في أمتنا حتى يفضي إلى أن يقتل بعضهم بعضًا! فعن أبي هريرة -رضي الله عنـه- يقول: سمعت رسول الله -صلـى الله عليه وسلم- يقول: "سيصيب أمتي داء الأمم" فقالوا: يا رسول الله، وما داء الأمم؟ قال: "الأشر، والبطر، والتدابر، والتنافس في الدنيا، والتباغض، والبخل، حتى يكون البغي، ثم يكون الهرج"(رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني).
ثم عَدَّ رسول الله -صلـى الله عليه وسلم- المسلم الذي يتبرأ من البغي وأمثاله من أفضل خلق الله أجمعين؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله -صلـى الله عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان"، قالوا: صدوق اللسان، نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
فيا ليت البغاة من أمتنا يثوبون ويتوبون ويرجعون وعن البغي والظلم يعرضون! يا ليت أمتنا تكون بهذا الوصف الذي ذكره نبينا الأكرم -صـلى الله عليه وسلم-: "التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد"، وليتهم يفقهون أمره الواضح -صـلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا"(متفق عليه)... بل ليتهم يطيعون الجليل الكبير العظيم -سبحانه وتعالى- وهو يقول: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا"(رواه مسلم).
وما دفعنا أن نجمع هذه الخطب المحذرة من البغي المنذرة من عواقبه المخوِّفة من شؤمه ومآلاته إلا لفداحة خطرة وشناعة جرمه وشدة إفساده وتفريقه للأمة المسلمة... فلعلها تكون ذكرى وخطوة على طريق وحدة المسلمين وتآلفهم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم