اقتباس
وهذا الإعلام الذي نتكلم عنه خطير جد خطير؛ فهو سلاح ذو حدين، يستطيع البناء والتعمير والترقي بالمجتمع إذا ما أُحسِن استخدامه، وبوسعه التدمير والتخريب والإفساد إذا ما أسيء استغلاله...
ربونا منذ الصغر على أن الأذان هو الإعلام بدخول وقت الصلاة... فكبرنا وقد ارتبطت كلمة: "الإعلام" في أذهاننا بالأذان والإقامة والمساجد، فقد كانت كلمة "الإعلام" في قلوبنا كلمة روحانية ملائكية جميلة المعنى والمبنى.
وبالرجوع قرونًا من الزمان عبر الماضي الإسلامي ندرك أنه قد كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- منظومة إعلامية غير الأذان؛ متمثلة في خطبة الجمعة، وفي الدروس والمواعظ، ومتمثلة أيضًا في شعراء الدعوة الإسلامية: عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت وغيرهم -رضي الله عنهم أجمعين- الذين قد حُفِظت أشعارهم إلى يومنا هذا، ومتمثلة كذلك في الرسائل النبوية إلى الملوك والأمصار... ونجد الإعلام مرة أخرى مرتبطًا بمعانٍ سامية طاهرة خالدة.
ومرت بنا السنون سراعًا وإذا بآذاننا ترتطم بمعانٍ غريبة على قلوبنا لكلمة الإعلام! وإذا بقلوبنا تشمئز وتنفر كلما سمعت كلمة "الإعلام"؛ فقد صارت اليوم مرتبطة -في الغالب- بالمخالفات الشرعية والعرفية! فنراهم يذيعون أخبارا تخالف التوحيد والعقيدة وتنافى الأخلاق والسلوك والعفة والحشمة وتهاجم فيه ثوابت الدين ومسلماته؛ وجميعها مسوغها حرية الكلمة والتعبير والرأي، وبعضه يكون تحت شعار الفن الإعلامي! وعن وسائل ذلك الإعلام فحدث ولا حرج..
فهذا باختصار: الإعلام كيف كان، وكيف أصبح؛ لقد ابتدأ مكتوبًا ومسموعًا عبر الخطبة والشعر والرسالة، وقد انتهى بوسائل التواصل والفضائيات والسينمات.. حتى إنك لتستطيع متابعة كل شيء بلا استثناء بالجلوس فقط أمام التلفاز أو مع هاتفك المحمول، ولعل هذا بعض المقصود بحديث الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده"(الترمذي).
***
ولعل الطفرة النوعية التي أسهمت في تطور وسائل الإعلام ذلك التطور المذهل هو اكتشاف إمكانية "إرسال الإشارات عبر الموجات الكهرومغناطيسية عن بعد لمعلومات ذات طبيعة صوتية كلامية أو أنواع أخرى من البرمجة"، فظهرت الإذاعة التي كانت أول انتقال للصوت عبر الهواء؛ بدون أسلاك بين جميع دول العالم.
ولقد بدأ البث الإذاعي في معظم الدول تجاريًا ابتداءً من سنة 1920م، فقد بدأ بثها في السعودية يوم التاسع من شهر ذي الحجة 1368هـ الموافق أول أكتوبر 1949هـ، وبدأ بثها في مصر يوم في 31 مايو 1934م، وفي الأردن يوم 15 مايو عام 1948م، وبدأ ارسالها في القدس يوم 30 مارس 1930م...
***
والإعلام الذي نتكلم عنه خطير جد خطير؛ فهو سلاح ذو حدين، يستطيع البناء والتعمير والترقي بالمجتمع إذا ما أُحسِن استخدامه... وبوسعه التدمير والتخريب والإفساد إذا ما أسيء استغلاله.
ودعونا نضرب بعض الأمثال على ذلك: فمن مهمة الإعلام الهادف أن يخبر الناس بالأخبار الصادقة لا المزيفة، وبنظرة سريعة على الإعلام الإخباري اليوم نكتشف دون عناء أن أغلبه كذب وتزييف وتلفيق ومكر وخداع! وويل لمن يفترون ويزيفون؛ يروي سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت الليلة رجلين أتياني، قالا: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب، يكذب بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة"(رواه البخاري)، فجملة: "تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق" تذكرنا كيف يكذب الإعلامي الكذبة في إحدى الفضائيات فتصل في توها ولحظتها إلى جميع بقاع الكرة الأرضية!
أيضًا فمن واجبات الإعلام أن يعلي من قيمة الفضائل وينشرها، ويحارب الرذائل ويُنَفِّر منها، وواقع إعلام اليوم غير ذلك تمامًا، فهو على النقيض يحارب الفضيلة وينشر الرذيلة!
كذلك فمن واجبات الإعلام الحفاظ على وحدة الأمة ونسيجها وكيانها، لكنه على النقيض يمثل أداة خطيرة لتمزيق الأمة وتشتيتها!
ومن واجباته: تقديم الأمناء الأكفاء ليحسنوا تعليم الناس ويكونوا لهم نعم القدوة، لكنهم على العكس؛ يقدمون "الفنان" والراقصة والتافه والحقير ليفتي الناس ويوجه الناس! وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة"، قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الرجل التافه في أمر العامة"(رواه ابن ماجه)، وقد جعل إعلام اليوم من نفسه أداة لتنفيذ تلك المهزلة!
***
ومما يؤسي ويحزن أن جُلَّ وسائل الإعلام وأغلبيتها الساحقة في أيدي المفرطين! وأن الملتزمين المعتدلين بمنأى عن استغلال الإعلام في الدعوة إلى الله -عز وجل-، إلا محاولات هنا وهناك يُفتح لها حينًا ويُضيق عليها أحيانًا.
ودعونا نقولها بعزم وحسم: قد آن لأهل الدين الحق أن يخوضوا ويزاحموا غير المؤهلين ليكون لهم الصدارة في مجال الإعلام ووسائله، قد آن للمصلحين أن يأخذوا بزمام المبادرة ليشرفوا على تلك المواقع ليضيقوا كل فساد؛ بدلًا من تقمصهم الآن دور المتهم المستضعف المدافع عن نفسه، قد آن لنا أن نُنتِج من جهدنا موادًا إعلامية مُصلِحة صالحة تنافس وتبز تلك المواد -التي رغم فسادها- فهي مُتقنَة ومُقنِعة قد أُنفِق عليها الآلاف بل الملايين.
وإني لأقسم غير حانث ولا شاك ولا مرتاب أن الصالحين لو امتلكوا من الفضائيات والمواقع والشبكات والإمكانيات ووسائل الإعلام مثلما يمتلك المفسدون منها لاستطاعوا أن يغيروا الكثير والكثير من العقائد والسلوك، وإني أقولها غير مبالغ: "أعطني إعلامًا مؤثرًا لبلد ما، أغيِّر لك مبادئها وأخلاقها وقِيَمها وربما عقائدها بفضل من الله وعون منه".
وفي الخطب التالية تجد الأمر مؤصلًا ومفصَّلًا ومؤيَّدًا، فإليك:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم