اقتباس
ما يزال مسلسل انبهار بعض ضعاف الإيمان من المسلمين بكل شاردةٍ أو واردةٍ جاءت من الغرب؛ فترى بعض الشباب والفتيات قد انبهروا بكل ما يفعله الغربيون من قَصَّات الشَّعر، أو الملابس الممزقة، والأكلات والشراب، ولبس...
اعتاد البشر في صراعهم الحضاري على أنَّ العزَّة والغَلَبة مقرونةٌ بالقوة والتفوق في العَدَد والعُدَّة، ومال الناس مع القويِّ الغالب، وأعرضوا عن الضعيف مهما كانت منزلته؛ ولقد ذكَر القرآن الكريم قريبًا من هذا المعنى عما فعله قوم شعيب -عليه السلام- معه عندما قالوا: (يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا)[هود: 91]، وكان من شُبُهات أهل مكة في عدم إيمانهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أن الرسالة لم تنزل على رجلٍ قويِّ في ظنِّهم؛ فقالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[الزخرف: 31]، وتواتر هذا المعنى في حياة البشر، أنهم يقلدون القوي الغالب في الأفكار والمعتقدات والهيئات، وينأون بأنفسهم عن الضعفاء في أفكارهم ومعتقداتهم.
وقد قرَّر هذا المعنى العلامة عبد الرحمن ابن خلدون؛ مؤسس علم الاجتماع، بقوله: "المغلوب مُولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شِعاره وزِيّه ونِحْلَته، وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أنَّ النفس أبدًا تعتقد الكمال في مَن غلَبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وَقَر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به مِن أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقادًا فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبَّهت به.. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله"(مقدمة ابن خلدون:1-196).
والمتأمل في واقع مجتمعات المسلمين في الآونة الأخيرة يجد كثيرًا من صور الانبهار بالغرب، والإعجاب بالحضارة الغربية، والتقليد الأعمى لمظاهرها الجوفاء. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تحذير الشرع من تقليد بالمشركين
ما يزال مسلسل انبهار بعض ضعاف الإيمان من المسلمين بكل شاردةٍ أو واردةٍ جاءت من الغرب؛ فترى بعض الشباب والفتيات قد انبهروا بكل ما يفعله الغربيون من قَصَّات الشَّعر، أو الملابس الممزَّقَة، والأكلات والشراب، ولبس الأساور والسلاسل، وأفعال مخلة ، وغيرها، لدرجة قاربت الانصياع التامّ لرجال الموضة في الغرب، في الثياب وقصات الشعر، ولبس الأحذية، فضلاً عن الموسيقى الصاخبة، واللباس الغريب، وغيرها من المظاهر التي تخالف ديننا الحنيف وقِيَمنا العربية الأصيلة، وثقافتنا التي قامت على مراعاة ضوابط الدين والعادات والتقاليد.
وانبهر الشباب بقشور من الثقافة الغربية، مما أدَّى إلى وقوعهم في هزيمة نفسية كبيرة، واعتقدوا أن الخير بحذافيره فيما يأتيه الغرب؛ حلاله وحرامه، وأن الشر كله ما اعتزله الغرب؛ حلاله وحرامه؛ لأنهم رأوا أن الغرب غير المسلم أساس ومظهر كل تقدّم وازدهار حضاري، فأصبح راسخًا في عقول هؤلاء المهزومين نفسيًّا المأزومين ثقافيًّا أنَّ كل ما جاء من الغرب هو دليلٌ على التمدّن والتقدُّم، ولذا أصبح الشباب المنبهر بالغرب -وخاصة المراهقين منهم- يرفضون مطالعة ومتابعة كل ما يمسُّ بالإسلام والثقافة العربية من قريب أو بعيد، وانكبُّوا على تقليد الفكر والثقافة الغربية في جميع سلوكياتهم؛ ممّا أدَّى إلى وقوعهم في خلل خطير في حياتهم وأفكارهم وابتعادهم عن دينهم.
وأمطرت وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت شباب المسلمين بمظاهر جوفاء وعادات مدمِّرة ومخالفات صريحة للدين والأعراف، وأوحت إليهم بأن السعادة الكبرى في مخالفة القِيَم والعقائد؛ فشجَّعُوا الشذوذ ليس الجنسي فقط، بل الشذوذ في الأفكار والعلاقات، ونشروه على أنه ذروة السعادة، وأن من لم يحصلها فاته من الخير الكثير.
وأدَّت هذه المسالك المشوَّهة إلى نشوء ظواهر غريبة في شوارع المسلمين، وكثر الأمر مع انحسار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغياب المصلحين وتأخرهم عن القيام بدورهم في النصح والإرشاد والتوجيه، وانغماس الأُسَر في أمورٍ غفلت معها عن دورها الأساس في التوجيه والتقويم ورعاية الدين والخُلُق قبل بناء الأجساد وكسوتها.
وهذا ما حذَّر منه الإسلام؛ نظرًا لأن الإعجاب بالغرب والانبهار بما عندهم من العقائد والأفكار والسلوك قد يؤدِّي بالمرء إلى متابعتهم والرضا بما هم عليه، والأدهى والأمرّ أن يزدري الأمة المسلمة ويستحيي من الانتساب إليها، ولذلك حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ من ذلك في أحاديث عديدة؛ منها ما ثبت عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ"(رواه البخاري).
ومعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن"؛ أي: من يكون غيرهم إذا لم يكونوا هم، وهذا واضح أيضًا في أزماننا خاصةً؛ فإنهم المخطِّطون لكلِّ شَرٍّ، والقدوة في كل رذيلة.
حتى وإن سَلِمَ معتقد المسلم؛ فإنه إذا حَرص على التشبُّه بأعداء الأمة فيما لا ينفع الأمة؛ فإنه واقع في وعيد شديد؛ فعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(رواه أبو داود 3512، وقال الألباني: حسن صحيح).
وإن تشابه المرء في الهيئة والملبس لفئة ما يَجُرّ إلى الولاء الباطني لمن يشابههم. وقد وعى اليهود هذا المبدأ جيدًا؛ فقالوا لما رأوا أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ قالوا: "ما يُريد هذا الرجلُ أن يَدَعَ من أمرنا شيئا إلا خَالفَنَا فيه"؛ ففي حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن اليهود كانت إذا حاضت المرأةُ فيهم لم يُؤَاكِلُوها، ولم يُجَامِعُوهنَّ في البيوت، فسأل أصحاب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- النبيَّ؟ فأنزل الله -عز وجل-: (ويَسْألُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ ولاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فإذَا تَطَهَّرْنَ فَائْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين)[البقرة: 222]؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اصنَعُوا كلَّ شيء إلا النكاحَ"، فبلغ ذلك اليهودَ، فقالوا: ما يُريد هذا الرجلُ أن يَدَعَ من أمرنا شيئا إلا خَالفَنَا فيه، فجاء أُسَيْدُ بنُ حُضير وعَبَّادُ بنُ بِشْر، فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقولُ كذا وكذا، أفلا نُجامِعهنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وجْهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى ظَنَنَّا أن قد وَجَدَ عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هديَّة من لَبَن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعَرفا: أنْ لم يَجِدْ عليهما (أخرجه مسلم).
العدل في الحكم على الغرب وفهم أسباب تقدمه
لا ينبغي لمسلم أن يفهم مما سبَق أن الإسلام يُعادِي الحضارة والمدنية، أو يرفض كل ما جاء من الغرب، بل أجاز الإسلام الأخذ بما لدى غير المسلمين من أسباب القوة؛ فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحقُّ الناس بها؛ ولذا لا مانع شرعًا ولا عقلاً من أن يتعلم المسلم ثقافة الغرب أو الشرق، ويطّلع على حضارتهم، وينتفع بما فيها من منافع وعلوم وتقدم تقني؛ شريطةَ ألا تأسره هذه الحضارة ولا تستولي على فكره، فيكون تبعًا لهم، وقد استفاد المسلمون الأوائل من حضارة الفرس والرومان دون أن يؤثر ذلك في عقيدتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم؛ وهكذا ينبغي أن يكون المسلم.
وهذا مذهب الاعتدال والوعي؛ فقد قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ". فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ. قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا؛ إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ؛ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ (أخرجه مسلم 2898).
ولذا فإن التشبُّه بالكفار والإعجاب بما لديهم على قسمين: تشبه وإعجاب واقتباس محرَّم، وتشبُّه وإعجاب واقتباس مباح.
القسم الأول: التشبه المحرّم: وهو فعل ما هو من خصائص دين الكفار مع علمه بذلك، ولم يرد في شرعنا.. فهذا محرّم، وقد يكون من الكبائر، بل إن بعضه يصير كفراً بحسب الأدلة؛ سواء فعله الشخص موافقة للكفار، أو لشهوة، أو شبهة تخيل إليه أنّ فعله نافع في الدنيا والآخرة.
فإن قيل هل من عمل هذا العمل وهو جاهل يأثم بذلك؛ كمن يحتفل بعيد الميلاد؟
الجواب: الجاهل لا يأثم لجهله، لكنه يعلّم، فإن أصر فإنه يأثم.
القسم الثاني: التشبه الجائز: وهو فعل عمل ليس مأخوذًا عن الكفار في الأصل، لكن الكفار يفعلونه أيضاً. فهذا ليس فيه محذور المشابهة لكن قد تفوت فيه منفعة المخالفة.
ولكن هذا التشبه بأهل الكتاب وغيرهم في الأمور الدنيوية لا يباح إلا بشروط:
1- أن لا يكون هذا من تقاليدهم وشعارهم التي يميّزون بها.
2- أن لا يكون ذلك الأمر من شرعهم ويثبت ذلك أنه من شرعهم بنقل موثوق به؛ مثل أن يخبرنا الله -تعالى- في كتابه أو على لسان رسوله أو بنقل متواتر مثل سجدة التحية الجائزة في الأمم السابقة.
3- أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك؛ فأما إذا كان فيه بيان خاص بالموافقة أو المخالفة استغنى عن ذلك بما جاء في شرعنا.
4- أن لا تؤدي هذه الموافقة إلى مخالفة أمر من أمور الشريعة.
5- أن لا تكون الموافقة في أعيادهم.
6- أن تكون الموافقة بحسب الحاجة المطلوبة ولا تزيد عنها
(انظر كتاب السنن والآثار في النهي عن التشبه بالكفار؛ لسهيل حسن ص 58- 59).
وإذا اعتز المسلمون بدينهم لم يحتاجوا إلى الغرب أو الشرق؛ فإن المسلمين والعرب في العصور الوسطى كانوا أسباب إنقاذ أوروبا والغرب من سطوة الجهل وتغول الكنيسة، وكان سببًا في غرس بذرة النور والعمل في كافة المجالات؛ رياضيات، وفلك، وصحة وطب، وعلوم، وغيرها من الأسس التي قامت عليها حضارة الغرب؛ فهذه بضاعتنا رُدَّت إلينا؛ فلو بذل المسلمون اليوم ما بذله أسلافهم العظام لعزُّوا وتقدموا وسادوا الأمم.
نسأل الله أن يهدي الأمة المسلمة لما فيه عزها ورشادها، ومن أجل أهمية هذا الموضوع وشدة تأثيره على أبناء الأمة المسلمة؛ جمعنا لكم -أيها الخطيب الكريم- مجموعة خطب منتقاة في التحذير من الإعجاب بالمشركين والتشبه بهم، نسأل الله أن يجري الحق على لسانك وقلبك، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال؛ إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم