اقتباس
إن من أعظم الخسارة أن تضيع من العبد مواسم الخيرات والطاعات دون أن يغتنمها، ويخرج منها فائزًا برحمات الله وبركاته، ولا تزيده هذه المواسم المباركة هدًى واستمساكًا بشريعة ربه -سبحانه- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإن المسلم اللبيب ليغتنم أنفاسه ويقبل على ربه ويكثر من الطاعات، يرجو رضى رب الأرض والسماوات، والعاقل لا ينتظر رمضان ليقرأ القرآن ويبدأ الصلاة ويصل أرحامه، بل من الآن، وما أدراك أنك تدرك رمضان؟!..
المتأمل في التشريع الرباني للعبادات والتكاليف التي أوجبها الله على العبد يجد لها حِكَمًا عظيمة وأهداف تربوية سامية، وإن من فضل الله على هذه الأمة أن جعل لها مواسم للطاعة ومواقيت للعبادة حتى يبقى المؤمن على صلة دائمة بربه -عز وجل-. وإن من رحمة الله بعباده أن نوَّع لهم العبادات والشعائر، ولم يجعلها على نمط واحد، وفي هذا ترغيب للنفس على الطاعة، وتربية لها على الالتزام والجد في تحصيل الثواب، ومن ذلك أن الصلاة فريضة اليوم والليلة وعلى امتداد العمر، وهي عمود الدين وركن من أركان الإسلام، تهذِّب النفس، وتطهِّر القلب، وتحول بين الإنسان وبين المنكرات، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت:45].
والصيام عبادة جليلة مفروض في شهر رمضان، أيامًا معدودات، يستطيع المسلم أداءها دون إرهاق أو مشقة زائدة. وفي هذه العبادة من الفضل والفضائل ما يزيد في المؤمن ملَكة التقوى، ويعوِّده على الخضوع والعبودية لرب العالمين، كما يهذِّب النفس بما يغرسه فيها من خوف الله -عز وجل- ومراقبته في السر والعلن، فالصوم سرٌّ بين العبد وربه، وهو أبعد العبادات عن الرياء، فالصائمون مخلصون لله في نواياهم، متوجهون إليه في سرائرهم. والزكاة عبادة مالية محضة لا دخل للبدن فيها، سوى النية الصادقة بأداء ما فرض الله على الأغنياء في أموالهم، وهي طهارة للمال والنفس من الشح والبخل، وتطهر المال بالنماء والخير والبركة، لقوله عز وجل: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة:103].
وأما الحج فريضة العمر الذي فُرِض على المسلم مرة واحدة، فهو يجمع بين العبادة البدنية والمالية. وهكذا هي مواسم العبادة والطاعة، بمثابة محطات لتزود المسلم بالإيمان والتقوى والعمل الصالح بما يغذِّي الروح والبدن، ويجعل المؤمن في نشاط دائم، وهو يؤدي هذه العبادات الفكرية والروحية والبدنية، فهو في محراب الصلاة يناجي خالقه بالقرآن الكريم والذكر الحكيم، وفي الصيام يحفظ سرّه ويصبر على شهوات النفس والبدن، وفي الزكاة يطهِّر نفسه وماله، وفي الحج يؤدي المناسك من طواف وسعي ورمي للجمار ووقوف بعرفات والمشعر الحرام تأسّيًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأداء لركن عظيم من أركان الإسلام، وهكذا يبقى المؤمن في شوق للطاعة والعبادة على مد السنين وتوالي الأيام. فاحرص -أخي المسلم- على اغتنام أوقاتك في الطاعة، وخذ من قوتك لضعفك، ومن شباب لهرمك، ومن غناك لفقرك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحتك لسقمك، فالسعيد من أشغل نفسه في الطاعة، والشقي من أتبع نفسه هواها ومن تمنى على الله الأماني، والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
والمسلم عندما تدخل مواسم الطاعة ينشط لها، ويفرح بها، يرجو ثواب ربه، ويأمل ما عنده من خير وبر، وإن من الفرح بفضل الله ورحمته والاغتباط بنعمته: اغتنام مواسم الخيرات وأوقات الطاعات، وانتهاز فرصها، والمبادرة بالجد فيها بصالح العمل، والتوبة إلى الله عما مضى من النقص والخلل، والتنافس في الطاعة وتجديد النشاط في البر، وإزالة مظاهر السآمة والملل والفتور، والمسارعة والمسابقة إلى دار النعيم والحبور. يقال هذا الكلام - أيها الإخوة - ونحن مقبلون على شهر عظيم ووافد كريم، أظل زمانه وقرب أوانه، شهر تضاعف فيه الأجور والحسنات، وتمحى السيئات، وتقال العثرات، وتفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتقبل فيه التوبة، وتصفد الشياطين، أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، شهر من أدركه فلم يغفر له فيه فقد أبعده الله، ومن دخل عليه وخرج وهو خاسر فما أعظم خسارته، شهر كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدومه فيقول: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" (مسند أحمد 7148 وصححه الأرناءوط).
إننا مقبلون على موسم عظيم من مواسم العمل الصالح، وإلى سوق من أسواق المتاجرة والمرابحة مع الله –جل وعلا-، وإن للربح أسبابًا أجمع العقلاء على عدم حصوله إلا بها، منها الاستعداد بعرض شريف البضاعة ونفيسها، وصيانتها مما يصرف النظر وينفر المشتري منها، مع الصدق والبر في البيع، واستكمال الوقت في العرض، وحسن الخلق من صاحب البضاعة. فإذا كان هذا ونحوه لازمًا للربح في التجارة مع المخلوقين فما ظنكم بما ينبغي من الآداب في التجارة مع رب العالمين؟! فإنه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولا يرضى من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتُغِيَ به وجهه، وكان موافقًا لما شرع على لسان نبيه وحبيبه وأعلم الخلق به.
فلنبادر بالتوبة النصوح من جميع الخطايا والسيئات، واستبقوا الخيرات، وسارعوا إلى فعل الطاعات، فإن المسارعة إلى الخيرات صفة عظيمة من صفات الذين هم من خشية ربهم مشفقون، وإن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى رفيع الدرجات في الآخرة، قال سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة:10-12]. وإن استباق الخيرات مفتاح لخزائن الأعمال الصالحات، فما يكاد العبد يفرغ من عمل صالح سبق إليه إلا فتح الله تعالى له برحمته أبوابًا مثله، قال تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [مريم:76]، وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد:17].
وإن السابق إلى الخيرات يجعله الله إمامًا للمتقين، يقتدون به في كل ما يرضي رب العالمين، وهذا مطلب عزيز من مطالب عباد الرحمن الذين قال الله سبحانه في وصفهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74]، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73]، وقال جل وعلا: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
وإن من كانت عادته المسابقة إلى الخير فإن الله يكتب له عمله الذي اعتاده ولو لم يعمله؛ إذا حال بينه وبين فعل الخير عارض من مرض أو سفر أو نحوهما من العوارض، لما في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له من العمل مثل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" (صحيح البخاري 2834). بل إن العبد ليُبعث على ما مات عليه، فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُبعث كل عبد على ما مات عليه" (صحيح مسلم 2787)، فمن جاءه الموت وهو من المسارعين السابقين بُعِث يوم القيامة من السابقين، فهنيئًا له قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة:10، 11].
إن من أعظم الخسارة أن تضيع من العبد مواسم الخيرات والطاعات دون أن يغتنمها، ويخرج منها فائزًا برحمات الله وبركاته، ولا تزيده هذه المواسم المباركة هدًى واستمساكًا بشريعة ربه -سبحانه- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإن المسلم اللبيب ليغتنم أنفاسه ويقبل على ربه ويكثر من الطاعات، يرجو رضى رب الأرض والسماوات، والعاقل لا ينتظر رمضان ليقرأ القرآن ويبدأ الصلاة ويصل أرحامه، بل من الآن، وما أدراك أنك تدرك رمضان؟! فكم من مؤجل للطاعات اختطفه الموت قبل دخول مواسم الخيرات!، وما أكثر الموت في شبعان بل في أواخره!، فصلْ رحمك، واعفُ عمن ظلمك، وأعطِ من حرمك، وأقبلْ على عبادة ربك، فلن ينفعك إذا وُضِعْتَ في قبرك إلا عملك، نسأل الله القبول وحسن الخاتمة. ومن أجل معالجة هذا الموضوع وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم هذه الخطب المنتقاة، ونسأل الله لنا ولكم الإخلاص والقبول وحسن الخاتمة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم