اقتباس
وكلما عاد العيد تذكرنا تلك القصة الرائعة الخالدة، واستقينا منها الدروس والعبر؛ استقينا منها أن الإيمان إنما يتبين عند المحكات والأزمات؛ فكل الناس مؤمن شاكر ما دام فيما يحب من النعم، فإذا أصابه فقر أو مرض أو بلاء من البلاءات إذا بمعدنه يظهر للعيان...
لعيد الأضحى، وللأضحية التي تذبح فيه، قصة مشهورة معروفة، قصة مفادها أن أبًا أمره الله في رؤياه أن يذبح ولده، ولأن هذا الأب نبي من أنبياء الله، بل هو أبو الأنبياء وخليل الرحمن، فقد امتثل للأمر امتثالًا عظيمًا، وهمَّ وعزم وأقدم على ذبح ابنه وبدأ في التنفيذ فعليًا، فقد أحضر سكينًا وأحدَّها، وأمسك بالولد واقتاده إلى مكان بعيد يذبحه فيه، في طاعة وامتثال لله لم يعرف لها الكون مثيلًا، وهذا الأب هو: إبراهيم -عليه السلام-.
لكن كلمة: "اقتاده" التي عبرنا بها توًا لا تعبر عن رد فعل الابن البار، فإن القصة أيضًا قصة ولد صالح تقبل من والده أمر الذبح في إخبات وخضوع وإيمان، وإنه لأمر عجيب أن يقبل شاب أن يراق دمه من غير ما جريرة ارتكبها، فما حاول الهرب ولا جزع ولا تمرد، إنه موقف ينبئك عن ثبات عظيم من ابن بار أحسن والده بث الإيمان في قلبه... إنه نبي الله إسماعيل. وإنها أيضًا قصة أم مؤمنة من المؤكد أنها قد علمت بما سيقدم عليه زوجها إبراهيم من ذبح ولدها الوحيد، ولم يذكر لنا القرآن ولا السنة ولا كتب التاريخ أنها اعترضت أو تمردت أو حاولت الفرار بولدها... فرحمك الله يا هاجر يا أم إسماعيل... ويا لها من أسرة عظيمة عجيبة! ويا لها أيضًا من قصة فريدة غريبة إيمانياتها وردود أفعالها على كثير من قلوب الناس اليوم، إنها قصة خلَّدها القرآن حين قال: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات: 102-107].
***
وكلما عاد العيد تذكرنا تلك القصة الرائعة الخالدة، واستقينا منها الدروس والعبر؛ استقينا منها أن الإيمان إنما يتبين عند المحكات والأزمات؛ فكل الناس مؤمن شاكر ما دام فيما يحب من النعم، فإذا أصابه فقر أو مرض أو بلاء من البلاءات إذا بمعدنه يظهر للعيان، ألم تسمع القرآن وهو يقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)[الحج: 11]، وما دفعه إلى أن ينكص وينقلب على وجهه إلا أنه كان لا يدرك أن الله -عز وجل- يبتلي بالخير كما يبتلي بالشر: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)[الأنبياء: 35]، أما إبراهيم وولده إسماعيل -عليهما السلام- فقد نجحا في الابتلاءين حين امتثلا للأمر بالذبح وهو ابتلاء بالشر، ثم بعدها بزمان حين شكرا الله -عز وجل- إذ اختصهما ببناء الكعبة. وتعلمنا من تلك الواقعة الفريدة أنه ما بعد الصبر على البلاء إلا الفرج والسعة والتمكين، فانظر إلى إبراهيم وإسماعيل لما صبرا وامتثلا أمر الذبح كيف نودي عليهما من السماء وكيف تنزل عليهما كبش من الجنة فداءً، ثم انظر إليهما ماذا أصابهما من فضل الله -عز وجل-، أما إبراهيم فقد صار خليل الرحمن وأبًا للأنبياء، وأما إسماعيل فصار نبيًا من الأنبياء، ووهبه الله من نسله محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- خاتم الأنبياء والمرسلين. والحق إن ما قصصناه من قصة الذبح والفداء ما هو إلا حلقة واحدة من حلقات ابتلاء إبراهيم -عليه السلام-، فقد ابتلي في والده حين وجده متمسكًا بعبادة الأصنام: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الأنعام: 74]، ثم ابتلي في نفسه لما ألقوه في النار ليحرقوه لما حطم أصنامهم: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء: 68-69]، ثم ابتلي في زوجه سارة مرتين: مرة لما لم تنجب له. ومرة حين أخذها الملك الجبار فكفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمها هاجر، ثم لما ولدت له هاجر ابتلي في طفله الرضيع الذي جاءه على كِبَرٍ فأُمر بتركه وأمه في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)[إبراهيم: 37]، ثم ابتلي فيها أخرى لما شب عن الطوق فأمر بذبحه... وما زال الخليل إبراهيم -عليه السلام- يبتلى ويصبر حتى جعله الله أمة وحده بل وأمر نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلـم-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[النحل: 120-123]. وتعلمنا من قصة الذبح والفداء كيف يكون البر بالوالدين: (قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102]، فواعجبا لولد يقول له والده إني بالسكين ذابحك، فيطيع ويمتثل ويصبر! ولا ندري أيهما أعجب؛ أطاعة الأب أم بر الولد؟
أرأيتم قلبًا أبويًا *** يتقبل أمرًا يأباه!
أرأيتم ابنًا يتلقى *** أمرًا بالذبح ويرضاه!
ثم الدروس بعد ذلك لا تكاد تنقطع.
***
وصار ذلك اليوم لنا عيدًا إلى يوم القيامة، عيد له آدابه وسننه وشعائره ومناسكه، فمن السنن والآداب في عيد الأضحى: أولًا: الأضحية: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "من وجد سعة فلم يضح معنا فلا يقربن مصلانا"(الحاكم، وحسنه الألباني)، ووقت ذبحها بعد صلاة العيد لا قبلها، فعن البراء بن عازب قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء"(متفق عليه).
ومن آدابه: الغسل والتطيب ولبس أجمل الثياب: أما الغسل: فهو مسنون لكل اجتماع عام للمسلمين كالجمعة والعيدين وغيرها من الاجتماعات. وأما لبس أجمل الثياب: فقد روى ابن عباس فقال: "كان -صلى الله عليه وسلـم- يلبس يوم العيد بردة حمراء"(الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني). ومن آدابه: الترويح المباح عن النفس: فعن عائشة قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا"(متفق عليه واللفظ لمسلم). فحن نريد أن نفرح بالعيد وندخل الفرحة على قلوب أحبابنا، ولكن يعوق ذلك حال إخوان لنا في شتى بقاع الأرض يدمي قلوبنا ما يحدث لهم، ولا نملك لهم نصرة ولا عونًا إلا بكلمات أو زفرات أو عبرات لا تغني عنهم شيئًا، وقد عبَّر الشاعر عن هذا الإحساس المؤلم قائلًا:
أقبلت يا عيد والأحزان أحزان *** وفي ضمير القوافي ثار بركان
أقبلت يا عيد والظلماء كاشفة *** عن رأسها، وفؤاد البدر حيران
أقبلت يا عيد والأحزان نائمة *** على فراشي وطرف الشوق سهران
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي *** قلوبنا من صنوف الهم ألوان؟
من أين نفرح والأحداث عاصفة *** وللدمى مقَل ترنو وآذان؟
من أين والمسجد الأقصى محطمة *** أماله، وفؤاد القدس ولهان؟
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي *** دروبنا جدر قامت وكثبان؟
من أين والأمة الغراء نائمة *** على سرير الهوى، والليل نشوان؟
من أين والذل يبني ألف منتجع *** في أرض عزتنا والريح خسران؟
***
وفيما يلي عدد من الخطب التي تدور حول العيد وآدابه وأحكامه، والتي تعرض قصة الذبح والفداء، والتي تعلِّم الناس كيف يستقبلون العيد وكيف يحسنون ضيافته ثم كيف يودِّعونه... فنسأل الله -تعالى- أن يجعله عيدًا مباركًا ميمونًا على المسلمين أجمعين، وأن يعيده علينا وقد تحررت مقدساتنا وصينت أعراضنا ورجعت إلينا أرضنا وكرامتنا وقد عدنا إلى ديننا، والله على تحقيق ذلك قدير.
التعليقات