رمضان والوباء – خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات:

اقتباس

فشمروا عن سواعد الجد والعمل، وسارعوا إلى الطاعات والأعمال الصالحات، وسابقوا في اغتنام الدقائق والساعات، وصلوا الليل بالنهار كفاحًا في العبادات؛ أحسنوا الصيام وأطيلوا القيام واختموا القرآن... ولتكن بشرانا ما جاء في القرآن: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)...

 

لا ندري يا رمضان بأي قلب نستقبلك؛ أبقلب الفرِح المستبشر بقدوم شهر الخير والبركات، أم بقلب الحزين المتأسف لغلق المساجد وفوات الخطى إليها وضياع التراويح وتفطير الصائمين؟!... أنفرح -يا رمضان- أن الله أحيانَا حتى أدركناك، أم نأسى لأنك جئت ومدننا ومساجدنا ليست في استعداد لاستقبالك؟!

 

أين فيك النزول إلى المسجد بعد السحور منتظرين صلاة الفجر؟ أين فيك قراءة ورد القرآن بعد تسليم الإمام من صلاة العصر؟ أين فيك الالتفاف حول خطيب المسجد وهو يلقي الدرس؟ بل أين تلك التمرات التي كنا نفطر عليها متعجلين لندرك صلاة المغرب في جماعة؟ بل أين تسارعنا بعد الإفطار لندرك مكانًا في الصفوف الأُوَل خلف الإمام في صلاة التراويح؟ وأين موائد أهل الخير التي كانت تغص بالصائمين ليفطروا فينالوا ثوابهم...

 

فلتلتمس لنا العذر -يا شهر الخير- إن لم تجد فينا تلك الفرحة التي عهدتها منا عند قدومك؛ فقد أقبلت هذا العام ونحن نعيش كالأسرى بين جدران بيوتنا! أقبلت وأماكن استقبالك مغلقة من مساجد وأجوارها! أقبلت وبعض أحبابنا مرضى في فُرُشهم تتخايل لهم صور المنون! أقبلت وفي النفوس تردد عند لقيا بشر أن تصافحه أو تقترب حتى من أنفاسه! أقبلت وقد استهلك الناس أموالهم على شراء المطهرات والمعقمات والكمامات والقفازات بدلًا من التمور والمشروبات!...

 

***

 

لكن -يا شهر الخير- إن لنا يقينًا أن هذا الكرب منكشف، وأن هذا الهم زائل، وأن هذه الغمة راحلة، وأن في طيات كل محنة منحة، وأن مع العسر يسرًا، وأن بعد الشدة فرجًا، وبعد الظلمة نورًا...

 

وإن لنا عزاء أن هذا الوباء الذي حل بديارنا ما جاء إلا لتطهيرنا من ذنوبنا، ومن أدران تراكمت على قلوبنا، ومن غفلة وسهو وسكرة قد عاش فيها كثيرون منا دهرًا... لقد جاءنا هذا البلاء لنتذكر به نعم الله التي ألفناها حتى خبا شكرنا لها، جاء لنلتفت إلى أن مجرد إمهالنا نعمة، وأن عافية أبداننا نعمة، وأن الهواء النقي الذي نستنشقه نعمة، وأن السعي في الطرقات غير خائفين ولا متباعدين نعمة...

 

جاء البلاء ليصرخ في هاجري المساجد: لقد كنتم تهجرونها مختارين فإنها اليوم قد أُغلقت دونكم! وجاء ليبطل حجج هاجري القرآن الكريم الذي كانوا يدَّعون أنهم لا يجدون أوقاتًا لتلاوته قائلًا لهم: "ها قد تعطلت أعمالكم وجلستم في بيوتكم فأين الآن أنتم من كتاب ربكم؟!"، وجاء ليصيح في اللاهين الذين أضلهم طول الأمل قائلًا لهم بلسان الحال: احذروا؛ ففي أي لحظة من ليل أو نهار، ومن حيث لا يحتسبون ولا تتوقعون، آتيكم فأبدِّل أمنكم خوفًا، وصحتكم سقمًا، وغناكم فقرًا!...

 

***

 

ونعود فنقول: إن المؤمن الحق من صبر واحتسب، وعَلِم أن الأمور كلها بيد الله وحده، فشكر ربه على كل ما قضى وعلى جميع ما قدر، فإن أقدار الرحمن الرحيم -عز وجل- كلها خير ورحمة، وكل قضاء الله -تعالى- للمؤمن خير، هذا ما قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له"(مسلم)، فالمؤمن في أحواله كلها بين خيرين؛ خير يحصِّله بالشكر، وخير يحصِّله بالصبر.

 

***

 

كذلك فإن المسلم الكيس الفطن العاقل لن يدع فرصة رمضان تتفلت منه، بل هو ينتهز أيامه وساعاته ودقائقه، ويغتنم بركاته وفضائله، ويشح بكل لحظة منه أن تمر إلا في خير وطاعة وعبادة وقربة إلى ربه...

 

فمنذ بداية أيامه، ومنذ الليلة الأولى وهو منتصب القدمين بالقيام بين يدي ربه في صلاة التراويح، وهو فيها وقبلها وبعدها يسائل ربه أن يعينه على إحراز الغنيمة من رمضان، وأن يعينه على الطاعات والقربات، وهو -من البداية- يستعيذ بربه من الغفلات والملهيات والصوارف التي تعيقه وتعرقله عن استثمار كل لحظة من رمضان.

 

فلن يعيقنا وباء ولا ألف وباء عن اغتنام دقائق رمضان ولحظاته فهي أغلى من الذهب... وإن كانت المساجد قد أُغلقت فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل"(متفق عليه)، وإن كنا قد افتقدنا قصد المساجد والسعي إليها فإن الجليل الكريم -سبحانه وتعالى- قد قال: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 115]... نعم، إن كانت المساجد قد غُلِّقت أبوابها فإن باب الله -عز وجل- مفتوح على مصرعيه لا يُغلق أبدًا...

 

والعاقل من فهم أن المقصود من الوباء هو أن نفزع منه إلى ربنا -عز وجل- الذي لا ملجأ منه إلا إليه، الذي يملك النفع والضر وحده لا شريك له: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الأنعام: 17]، إن الوباء إذا نزل، فخاف الناس منه، وشعروا بدنو الموت وإنه على بعد خطوات منهم وقد يطرقهم في أي لحظة من ليل أو نهار... كان ذلك سببًا أن يهرعوا إلى التزود من الطاعات والتقرب من مرضاة رب البريات... واليوم نقول لهم: ها قد جاءتكم الفرصة سانحة ميسورة؛ ها قد جاءكم شهر رمضان.

 

فشمروا عن سواعد الجد والعمل، وسارعوا إلى الطاعات والأعمال الصالحات، وسابقوا في اغتنام الدقائق والساعات، وصلوا الليل بالنهار كفاحًا في العبادات؛ أحسنوا الصيام وأطيلوا القيام واختموا القرآن... ولتكن بشرانا ما جاء في القرآن: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[البقرة: 216]، فلعله يكون -وبفضل الله سيكون- خير رمضان مر علينا طوال أعمارنا.

 

***

 

وفي الخطب التالية ستجدون -إن شاء الله- جميع هذه المعاني مؤصلة مفصلة واضحة، فإليكم، فأحسنوا الإفادة منها.

 

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
الخطبة العاشرة:
الخطبة الحادية عشر:
العنوان
الوباء في رمضان 2020/04/21 3824 950 20
الوباء في رمضان

وَحِينَ يَأْسَى الْمُسْلِمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِقَامَةَ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسَاجِدِ خَشْيَةَ الْعَدْوَى يَتَذَكَّرُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ فِيمَا مَضَى خَلَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْصَارِ الْعَظِيمَةِ لِمَوْتِ أَكْثَرِ النَّاسِ بِالْوَبَاءِ، وَهُوَ يُقِيمُ صَلَاتَهُ فِي بَيْتِهِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ...

المرفقات

الوباء في رمضان - مشكولة

الوباء في رمضان

المرفقات
رمضان-والوباء-8-01.jpg
رمضان-والوباء-8-02.jpg
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life