اقتباس
وما أحوج المسلمين اليوم إلى فهم هذا المبدأ العُمَري: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"، إن أخذك بأسباب الوقاية هو من أقدار الله، وابتعادك عن مظان العدوى هو من أقدار الله، ومكثك في بيتك هو من أقدار الله... وفي القلب المؤمن تستقر عقيدة: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ)، بجانب عقيدة: "وفر من المجذوم كما تفر من الأسد"...
أجمع الأطباء والعلماء والحكماء وجميع العقلاء أن الوقاية خير من العلاج، فإن كنت أستطيع أن أمنع المرض أن يستوطن جسدي، فَلَهُو خير ألف مرة من أن أتركه يصيبني ثم أداويه وأعالجه! ولئن أُحصِّن أبواب منزلي ونوافذه فلا يدخله عقرب أو ثعبان، لَهُو أيسر ألف مرة من أن أتخاذل في التحصين فيدخلان ثم أحاول طردهما! ولئن أكف لساني فلا ينطق بما يوجب عقوبة لَهُو أسلم ألف مرة من أطلقه ثم أتعذر وأعتذر أو أُعاقب وأُطرد! وصدق من قال: "الوقاية خير من العلاج". وأحوج ما نكون إلى إعمال هذه الحكمة الرائعة الصادقة: "الوقاية خير من العلاج"، إذا لم يكن علاج معروف أصلًا، بل تكون الوقاية هي العلاج الأوحد المعروف إلى الآن، وفي هذه الأزمة التي ينتشر فيها هذا الوباء الذي يحصد الأرواح ويحرق المهج والأكباد، لا تكون "الوقاية خير من العلاج" فقط؛ بل تكون "الوقاية هي العلاج نفسه"... فهو شعار نرفعه في هذه الأزمة التي نحياها، شعار يقول: "الوقاية هي العلاج".
***
وأعلم أنه سيخرج علينا من يقول: وهل تلك الوقاية تمنع قضاء الله أن ينزل؟! وهل تلك الوقاية تحمي من كَتَبَ الله أن يصاب فلا يصاب؟! بل هي ضعف إيمان بقضاء الله وقدره، وخلل في التوكل عليه -سبحانه-؟!... هكذا يهرف الجاهلون، ويتقاول المتواكلون!
ونجيبهم: لقد بوَّب الإمام مسلم في صحيحه بابًا بعنوان: "باب اجتناب المجذوم ونحوه"، وأورد تحته حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا قد بايعناك فارجع"(مسلم)، فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أقوى الخلق إيمانًا وأعظمهم توكلًا على الله يأخذ بأسباب الوقاية ويقبل من المجذوم مبايعته مشافهة دون مصافحة.
ومرة أخرى يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بأن يأخذوا بأسباب الوقاية من الأوبئة والطواعين؛ فعن أسامة بن زيد: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه"(متفق عليه)، فأما كون المسلم لا يدخل بلدًا وقع فيه الطاعون فسببه وقاية نفسه من أن يصيبه ذلك الوباء إذا دخل على المبتلين، وأما كونه لا يخرج من البلد التي وقع فيه الوباء ففيه وقاية للناس خارج ذلك البلد من أن ينتقل إليهم البلاء والوباء.
***
وفي هذا أصل لما يسمونه اليوم بـ: "الحجر الصحي" أو "العزل الصحي"، ولقد حدث أكبر وأشهر حجر صحي -فيما أعلم- في زمان الفاروق عمر؛ فعن عبد الله بن عباس: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد؛ أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء.
فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبًا في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" قال: فحمد الله عمر ثم انصرف(متفق عليه)، فقد رجع الصحابة الأطهار وقفلوا دون أن يدخلوا بلاد الشام مطبقين الحجر الصحي، وآخذين بمبدأ "الوقاية خير من العلاج".
***
وما أحوج المسلمين اليوم إلى فهم هذا المبدأ العُمَري: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"، إن أخذك بأسباب الوقاية هو من أقدار الله، وابتعادك عن العدوى هو من أقدار الله، ومكثك في بيتك هو من أقدار الله... وفي القلب المؤمن تستقر عقيدة تقول: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ)[التوبة: 51]، تستقر هذه العقيدة جنبًا إلى جنب إلى عقيدة: "اعقلها وتوكل"(الترمذي).
كذلك تستقر عقيدة: "لا عدوى"؛ أي: لا عدوى مؤثرة بذاتها وطبعها وإنما التأثير بتقدير الله، تستقر بجانب عقيدة: "وفر من المجذوم كما تفر من الأسد"(البخاري)... فالمسلم يوقن أن الأمر كله بيد الله -عز وجل- وحده، وموقن كذلك أن الأخذ بأسباب الوقاية من هدي النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي أُمرنا باتباعه.
والأخذ بأسباب الوقاية لا يقتصر على البشر بل يتعداهم إلى الحيوان الأعجم؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لأصحاب الأبل): "لا يورد الممرض على المصح"(رواه أحمد)، "لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه"(فتح الباري، لابن حجر).
***
وحفظ النفس مقصد من مقاصد الدين، بل هو من الضرورات الخمس التي أمر الإسلام بصيانتها، وقد قالوا: "صحة الأبدان مقدمة على صحة العبادات"، ويُستدل لذلك بما رواه جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بذلك فقال: "قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال"(رواه أبو داود).
وأيضًا فإن دين الإسلام رخَّص للمسافر وللحامل وللمرضع وللمريض الفطر في نهار رمضان، لأن ذلك يشق على أبدانهم... وبناء على ذلك نقول: يخطئ من يفرط في الأخذ بأسباب الوقاية، ويخالف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويحمل في رقبته ذنب من تسبب في نقل الوباء إليهم إن كان يعلم بمرضه ثم اختلط بالناس متعمدًا...
***
وقد جمعنا فيما يلي بعض الخطب المفيدة في هذا الموضوع، فلعلها تكون ناقوس خطر للغافلين، ومعلمة خير للجاهلين، والله من وراء القصد عليم.
التعليقات