اقتباس
وهل أضاع الدين إلا المداهنون المجاملون على حساب الدين؟!... فالرجل المداهن يجتمع فيه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرضى بفعل الفجار، والضعف عن القيام بواجبه نحو الإسلام، واسترخاص الدين في سبيل طلب عرض الدنيا... فما عساه أن يبقى له من دينه؟!...
يروي الصحابي الجليل عبادة بن الصامت فيقول: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم"(متفق عليه)... فمن أُولى لحظات إسلامهم يأخذ عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العهد والميثاق على مهمات الأمور، ومنها: "وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم".
وليس عجيبًا ولا غريبًا حين يعدد الله -عز وجل- صفات القوم الصالحين أن يذكر من جملتها نفس هذه الصفة؛ "لا يخافون لومة لائم": (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)[المائدة: 54].
وهكذا يكون المسلم الحقيقي؛ لا يداهن ولا يجامل على حساب الحق أبدًا، فغايته هي الحق، ومبدؤه هو الحق، وسعيه في سبيل الحق، وموته -يوم يموت- على الحق... وإنك لتجد القرآن الكريم في غير ما موضع يأمر المؤمنين بذلك، ويحذرهم أن يحيدوا عنه قيد أنملة، فيقول في سورة النساء: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[النساء: 135]، "والمعنى: قولوا الحق ولو على أنفسكم أو على الوالدين أو الأقارب، فأقيموا الشهادة عليهم لله -تعالى-، ولا تحابوا غنيًا لغناه، ولا ترحموا فقيرًا لفقره"(تفسير الخازن).
والعكس -أيضًا- حذرنا منه القرآن الكريم؛ وهو أن نحيد عن الحق بسبب كرهنا وبغضنا لأحد، ففي سورة المائدة؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة: 8]؛ "أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد، في كل حال"(تفسير ابن كثير)، وقد انتهت الآيتان بتحذير بأن الله خبير بما نعمل.
وعلى هذا سار الصحابة الأماجد؛ لا يحيدون عن الحق أبدًا، فلا يداهنون ولا يجاملون أحدًا على حساب الحق لحبهم إياه، ولا يخالفون الحق لبغضهم لأحد، يروي سليمان بن يسار "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث عبد الله بن رواحة، فيخرص بينه وبين يهود؛ قَالَ: فجمعوا له حليًا من حلي نسائهم، فقالوا: هذا لك، وخفف عنا، وتجاوز في القسم؛ قَالَ ابن رواحة: "يا معشر يهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما الذي عرضتم من الرشوة، فإنها سحت وإنا لا نأكلها"، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض"(موطأ مالك).
وكما فعل اليهود مع ابن رواحة فقد أراد الكفار من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يداهنهم على حساب دينه ورسالته، وفي هذا يقول القرآن: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)[الإسراء: 73-74].
وها هم يحاولون مرة أخرى فيسلطون عليه حِبه أسامة، ليداهن على سبيل الحق -وحاشاه-، ولندع أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تقص علينا الحكاية فتقول: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمه أسامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"(متفق عليه).
لكنهم -وإن فشلوا في تحقيق ما أرادوا- إلا أنهم كانوا يتمنون ذلك من صميم قلوبهم؛ كذلك أخبرنا القرآن الحكيم: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)[القلم: 9]، و"المداهنة هي الملاينة فيما لا ينبغي، وروي أن الكفار قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك، فنزلت الآية"(تفسير ابن جزي)، "ومعنى الآية: أنهم تمنوا أن تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم، فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض ما لا ترضى به، فتلين لهم ويلينون لك"(تفسير الخازن).
وكيف يداهن أو يجامل -صلى الله عليه وسلم- على حساب الحق وهو الذي قال: "إذا قال الرجل للمنافق يا سيد فقد أغضب ربه -تبارك وتعالى-"(رواه أبو داود والحاكم واللفظ له، وصححه الألباني).
***
وهل أضاع الدين إلا المداهنون المجاملون على حساب الدين؟! فإن المداهنة "في الشرع: عدم تغيير المنكر مع القدرة عليه؛ رعاية لجانب مرتكبه أو لجانب غيره، أو لقلة المبالاة بالدين! وقيل: معاشرة الفساق وإظهار الرضا بما هم عليه من غير إنكار عليهم، وقيل: بذل الدين لصلاح الدنيا، وهي الفتور والضعف في أمر الدين كالسكوت عند مشاهدة المعاصي والمناهي مع القدرة على التغيير"(بريقة محمودية، للخادمي)، وقال العز بن عبد السلام: "والمداهنة: مجاملة العدو وممايلته، أو النفاق وترك المناصحة"(تفسير العز بن عبد السلام).
فالرجل المداهن يجتمع فيه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرضى بفعل الفجار، والضعف عن القيام بواجبه نحو الإسلام، واسترخاص الدين في سبيل طلب عرض الدنيا... فما عساه أن يبقى له من دينه؟!
إنما المسلم الحق من لا يجامل ولا يداهن على حساب دينه ولو كلفه ذلك ماله وولده ونفسه أحياناً... يروي عبد الواحد الدمشقي فيقول: "نادى حوشب الخيري عليًا يوم صفين فقال: انصرف عنا يا ابن أبي طالب، فإنا ننشدك الله في دمائنا ودمك، نخلي بينك وبين عراقك، وتخلي بيننا وبين شامنا، وتحقن دماء المسلمين، فقال علي: هيهات يا ابن أم ظليم، والله لو علمت أن المداهنة تسعني في دين الله لفعلت، ولكان أهون علي في المؤونة، ولكن الله لم يرض من أهل القرآن بالإدهان والسكوت والله يعصى"(حلية الأولياء).
***
ولكن هل معنى هذا أن يكون المسلم فظًا غليظًا جافيًا منفِّرًا للناس؟!
ونجيب: إن كانت المداهنة محرمة ممقوتة فإن المداراة مستحبة مستحسنة، والفرق بينهما يوضحه حبر الأمة ابن عباس فيقول: "المداهنة هي المهاودة فيما لا يحل، والمداراة: المهادوة فيما يحل"... و"المداهنة: إظهار الرضا بفعل الفاسق من غير إنكار عليه، والمداراة: هي الرفق في تعليم الجاهل، والملاطفة في نهي الفاسق عن فعله، وقد قال -تعالى-: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا)[طه: 44]، وقيل: المداهنة: ترك الدين بالدنيا، والمداراة: بيع الدنيا بحفظ الدين"(تفسير البحر المديد).
يقول ابن حبان: "الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة من غير مقارفة المداهنة؛ إذ المداراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه"(روضة العقلاء).
ومن أجل التحذير من تلك المداهنة التي عمت وانتشرت وأفسدت قد عقدنا هذه المختارة من خطب الفضلاء، فإليكم:
التعليقات