اقتباس
ولا تزال تتواصل تلك القوافل النتنة المشؤمة من ممسوخي الفطرة، الذين حادت بهم أهواؤهم عن طريق الهدى، وضللتهم الشيطان عن الصراط المستقيم، تسير قطعانهم تحوطها الحيات والعقارب، ويظللها سخط الله ومقته، وينتظرها في الآخرة الخزي والفضيحة والعار والشنار والذل والمهانة والعذاب الأليم...
لو تُرك الناس كما خرجوا من بطون أمهاتهم لعاشوا أنقياء أبرياء أطهارًا، ولكانت الأرض غير الأرض، والحياة غير الحياة؛ فإنهم خُلقوا يوم خُلقوا على الفطرة البيضاء النقية؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"(متفق عليه).
لو ظلوا كيوم وُلدوا لكانوا كاللبن الأبيض رمز الفطرة والطهارة، فللبن مع الفطرة خصوصية؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحداث المعراج: "ثم أتيت بإناءين: في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقال: اشرب أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته، فقيل: أخذت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك"(متفق عليه).
ولأن اللبن هو رمز الفطرة فلا طعام هو خير منه، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أطعمه الله طعامًا، فليقل اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا، فليقل اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب، إلا اللبن"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)، ولعل هذا من بركات الفطرة التي حلت فيه.
***
لكن أغلب البشرية لم يبقوا على فطرتهم تلك؛ بل لوثتهم الشهوات والأهواء والشبهات، ودنستهم الذنوب والمعاصي، وبدأت فطرتهم تتشوه شيئًا فشيئًا، فمنهم من مُسخت فطرته بالكلية حتى لم يبق لها أثر، ومنهم من بقي لها في قلبه بقية قليلة أو كثيرة، فالناس في القرب عن الحق والبعد عنه بمقدار تلك البقية التي بقيت.
وكان أعظم ما سمعنا عمن مُسخت فطرتهم أقوم ينكرون أن للكون خالقًا أوجده من عدم وهو يقوم عليه ويدبر أموره! لقد تفوق هؤلاء الملحدون في الجهل والجاهلية على عبدة الأوثان الذين لما سئلوا عمن خلقهم وخلق الكون أجابوا: "إنه الله": (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)[العنكبوت: 61]، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)[الزخرف: 87].
وممن مُسخت فطرتهم: "عبدة الشيطان" الذين يقدسونه ويتقربون إليه بذبح النفوس البريئة وإتيان الفواحش! يعبدون شيطانًا طريدًا ذليلًا، ويكفرون بالخالق الجليل الكبير العظيم ملك الملوك ومالك الملك! (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)[الحج: 12-13]، مع أن القرآن حذَّرهم مرارًا وتكرارًا: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)[يس: 60-62].
ومنهم "عباد البقر" و"عباد الفئران" و"عباد فروج النساء"! إلى آخر ذلك من الخبال والوبال والانحراف عن الفطرة وعن ميثاق الفطرة الذي أخذه الله -تعالى- على جميع البشر: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)[الأنعام: 172].
ويوم القيامة يكون ندمهم طويل وحسرتهم أليمة وعذابهم عظيم، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب، إلا يتساقطون في النار".
وصورة أخرى من صور الانحراف عن الفطرة تتمثل في رجال ونساء تنكروا للميل الطبيعي إلى الجنس الآخر، ومالوا إلى نفس نوعهم؛ فاستغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء! إنه انحراف وشذوذ بدأ من قديم: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ)[الأعراف: 80-81]، وذلك اللواط بين الرجال، والسحق بين النساء لهو مما يجلب الدمار والخراب؛ فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا استحلت أمتي ستًا فعليهم الدمار: إذا ظهر فيهم التلاعن، وشربوا الخمور، ولبسوا الحرير، واتخذوا القيان، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء"(رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
وفاعل ذلك ملعون مطرود من رحمة الله -والعياذ بالله-، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط"(رواه الطبراني، وصححه الألباني).
وعقوبته في دنياه القتل؛ فعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وليس بعيدًا عن هؤلاء من يأتي زوجته وهي حائض أو من دبرها! فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنًا، فقد كفر بما أنزل على محمد"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وأشد منهم انتكاسًا وانحرافًا وضعة: من جاوز جنس البش إلى جنس الحيوانات، فأتى شهوته مع بهيمة أو حيوان! فعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه، واقتلوا البهيمة"، فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ قال: "ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك شيئًا، ولكن أرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره أن يؤكل من لحمها، أو ينتفع بها، وقد عمل بها ذلك العمل"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
***
ولا تزال تتواصل تلك القوافل العفنة النتنة المشؤمة من ممسوخي الفطرة، الذين حادت بهم أهواؤهم عن طريق الهدى، وضللتهم الشيطان عن الصراط المستقيم، تسير قطعانهم في الغي والنكوص يظللها سخط الله ومقته، وينتظرها في الآخرة الخزي والفضيحة والعار والشنار والذل والمهانة والعذاب الأليم... بما كانوا يعيثون في الأرض؛ يشوهون كل جميل، ويزينون كل قبيح، ويلوثون كل طاهر، ويرتكبون كل محرَّم مذموم!
وفيما يلي من خطب رصينة متقنة قد قام خطباؤنا ببيان خطورة الانحراف عن الفطرة، وطرق تنقيتها والعودة إليها والمحافظة عليها، فلعلها تكون خطوة إلى تزكية النفوس وتطهيرها والعودة بها إلى فطرتها الأولى النقية الطاهرة البريئة تمامًا كما نزلت من بطون الأمهات.
التعليقات
زائر
22-08-2023جزاكم الله خيراً