اقتباس
وهنا انقسم بنو آدم أربعة أقسام: قوم لا يغارون على حرمات الله بحال... وقوم يغارون على ما حرمه الله وعلى ما أمر به مما هو من نوع الحب والكره يجعلون ذلك غيرة... وقوم يغارون على ما أمر الله به دون ما حرمه فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها... وقوم يغارون مما يكرهه الله ويحبون ما يحبه الله هؤلاء هم أهل الإيمان...
هي فطرة مركوزة في قلوب الرجال والنساء وفي وجدان الكبار الصغار، منها المحمود الذي يبني ويحمي، ومنها المذموم الذي يهدم ويدمر، وقد عرَّفها بعض العلماء بأنها: "حميَّة تشتعل في النفس؛ لمزاحمة الآخرين لها في شيء تحبه".
وما من أحد إلا وهو يغار، وأعظم وأجل من يغار هو ملك الملوك ومالك الملك -سبحانه وتعالى-، فعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس شيء أغير من الله عز وجل-"(متفق عليه)، ثم يوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- كنه غيرة الله -تعالى- قائلًا: "إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه"(متفق عليه)، ويزيد -صلى الله عليه وسلم- الأمر وضوحًا فيقول: "لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"(متفق عليه)، ويضرب -صلى الله عليه وسلم- نموذجًا لذلك قائلًا: "يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني"(رواه البخاري).
وإن الغيرة صور وأشكال وأنواع، فمنها الغيرة على الأعراض؛ غيرة الرجال على النساء، فعن سعد بن عبادة -رضي الله عنه-: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه، والله أغير مني"(متفق عليه).
وعند مسلم أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلا لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، قال: كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلوس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: هذا لعمر، فذكرت غيرتك، فوليت مدبرًا"، فبكى عمر وهو في المجلس ثم قال: أوعليك يا رسول الله أغار؟(متفق عليه).
وكان الزبير بن العوام لا يقل غيرة عن سعد -رضي الله عنهما-، فعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: "إخ إخ" ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه"(متفق عليه)، فغيرة الرجال على حريمهم غيرة صيانة وحماية ووقاية، وهي غيرة المحب على من يحب، لسان حالهم:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه *** لا بارك الله بعد العرض بالمال
ومن ألوان الغيرة: غيرة النساء على الرجال، ولو نجت واحدة منهن من الغيرة على زوجها لنجت أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن-، لكنهن وقعن فيها كبقية النساء، فهذه عائشة -رضي الله عنها- تغار من امرأة ميتة فتقول: "ما غرت على امرأة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما غرت على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني، لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن"(متفق عليه).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: "غارت أمكم"، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت"(رواه البخاري).
ولهن -رضي الله عنهن- كل الحق في الغيرة على زوجهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لذا فلما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عند عائشة -رضي الله عنها- ليلًا، قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: "ما لك؟ يا عائشة أغرت؟"، فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟"(رواه مسلم)، وحق لها أن تغار على خير الخلق أجمعين.
وأجل ألوان الغيرة هو الغيرة على محارم الله، تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم بها لله"(متفق عليه).
ويذكر ابن تيمية أصناف الناس في الغيرة على دين الله فيقول: "وهنا انقسم بنو آدم أربعة أقسام: قوم لا يغارون على حرمات الله بحال ولا على حرمها مثل الديوث والقواد وغير ذلك... وقوم يغارون على ما حرمه الله وعلى ما أمر به مما هو من نوع الحب والكره يجعلون ذلك غيرة فيكره أحدهم من غيره أمورًا يحبها الله ورسوله... وقوم يغارون على ما أمر الله به دون ما حرمه فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها بل يبغضون الصلوات والعبادات... وقوم يغارون مما يكرهه الله ويحبون ما يحبه الله هؤلاء هم أهل الإيمان"(الاستقامة، لابن تيمية).
وكل ما سبق من ألوان الغيرة هو من أشكال الغيرة الممدوحة، أما الغيرة المذمومة فقد روى جابر بن عتيك أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة"(رواه أبو داود).
ومن الغيرة المذمومة الغيرة التي تقود إلى الحقد والحسد؛ بأن يغار من أقرانه أن يؤتيهم الله خيرًا، أو تغار من جارتها أن تتفوق عليها في جمال أو حظوة عند الأقران... وهذا اللون من الغيرة دائمًا ما يدفع إلى الظلم والتجني، يقول ابن القيم: "فإن كثيرًا ممن تشتد غيرته من المخلوقين تحمله شدة الغيرة على سرعة الإيقاع والعقوبة من غير إعذار منه، ومن غير قبول لعذر من اعتذر إليه، بل يكون له في نفس الأمر عذر ولا تدعه شدة الغيرة أن يقبل عذره"(الداء والدواء، لابن القيم).
وما عقدنا هذا الملف العلمي إلا لنُروِّج للغيرة المحمودة ونحث عليها، ولنُحذِّر من الغيرة المذمومة ونخوِّف منها، وقد جاء محوره الأول تعريفًا بها وبأنواعها، وانتظم الثاني دوافعها وضوابطها، وجاء الثالث مقدمًا الأمثلة والنماذج لها، ثم جمعنا في الرابع الكتب والمراجع التي تجمع جوانبها.
التعليقات