اقتباس
إن المجتمعات تعاني كثيرًا جراء الكوارث والبلايا؛ نظرًا للفساد المالي وخراب الذمم، وإن مرد كثير من صور الفشل والإحباط إلى استشراء التقصير والإهمال والتسيب الإداري، وعدم القيام بالمسئوليات على ما يُنشد فيها من كفاءات وخبرات.. وذلك هو الداء الذي يغتال الإصلاح والبناء ويهدر المشاريع الإنمائية، ويمنع الأمة من الريادة والعزة والكرامة.
بالأمس القريب دعونا كثيرًا في صلاة الاستسقاء أن ينزل الله علينا المطر، وأن يسقينا الغيث وألا يجعلنا من القانطين، وسبحان مغير الأحوال، فأنزل الله المطر بغزارة وكثرة، وصلت لحد السيول، نسأل الله العظيم أن يلطف بنا وبالمسلمين.
إن هذه السيول من أقدار الله -سبحانه- ابتلاءً للأفراد والمجتمعات والدول، والابتلاءات أمر لازم في السنن الإلهية ليس منها مفر، والأقدار الإلهية اختبارات بصنوف النُذر والتمحيص، بالمنع والعطاء، والبسط والقبض، وصدق أرحم الراحمين (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء:35]، ترجعوا إلى ربكم ليطلعكم على نتائج امتحانكم وابتلائكم، والبلايا ضيوف ترحل إلى ربها مهما طالت تحمل بين يديها صبر العبد أو شكره وكلاهما له خير.
إنها آيات الله القاهرة وعبره الباهرة.. كوارثُ وجوائح سيول وفيضانات فوادح.. أعاصير ساحقة، وبراكين ماحقة وأوبئة مغتالة، وأمراض فتاكة.. تعجز عن صدها قوى الإنسان واكتشافاته واختراعاته الدقيقة؛ ليظل الإنسان دائمًا وأبدًا يشعر بفقره إلى ربه وحاجته إليه؛ ليصرف عنه السوء، ويبعد عن الضرر، وينجيه من البلايا. وما أضعفك -يا ابن آدم- تحتاج الماء، ولا تستطيع الاستغناء عنه؛ إذ هو سر الحياة، وتظل تلحّ في طلبه، وتصلي استسقاء، وتكثر من الدعاء، حتى إذا فاض الماء، وفتحت أبواب السماء بماء منهمر؛ إذ بك تتضرر منه، وتعلو صوتك بالجؤار والفزع منه؛ فما أضعفك في الحالين؛ حال احتياجك للماء وافتقارك إليه، وإذا فقدته فقدتَ الحياة والخضرة، وماتت الأرض من حولك، وضاقت بالأرض هوامها، وأهملت البهائم وماتت الزروع، وعندما يكثر الماء يزداد همك، فيقطع عليك السبل، ويهدم البيوت، ويمنع الأعمال، ويفسد المزروعات، ويتلف البضائع؛ فسبحان المعطي المانع القابض الباسط.
إن ما يلاقيه المسلم جراء السيول من كُرَبٍ وخوف أو نقصٍ في الأنفس والثمرات والأموال ما هو إلا رفعة في درجاته إن هو صبر واحتسب، ولآخر كفارة لسيئاته، وجلَّ الله -تبارك وتعالى- أن يظلم خلقه ذرة مثقال، وإنما هو بما كسبت أيدي الناس، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[البقرة:155].
إن المجتمعات تعاني كثيرًا جراء الكوارث والبلايا؛ نظرًا للفساد المالي وخراب الذمم، وإن مرد كثير من صور الفشل والإحباط إلى استشراء التقصير والإهمال والتسيب الإداري، وعدم القيام بالمسئوليات على ما يُنشد فيها من كفاءات وخبرات.. وذلك هو الداء الذي يغتال الإصلاح والبناء ويهدر المشاريع الإنمائية، ويمنع الأمة من الريادة والعزة والكرامة.
إن العبد المسلم يؤمن إيمانًا جازمًا لا شك فيه أن الله -تبارك وتعالى- رب كل شيء ومليكه، وأنه خالق كل شيء ومدبره، وأن الكون كله في قبضته، لا يعزب عن أمره شيء في الأرض ولا في السماء، فلا تتحرك حبة رمل، ولا ورقة شجر، ولا تنزل قطرة ماء، ولا تهب ريح، ولا تحدث أي حركة ولا سكنة في الكون إلا بإذنه وقدره وتدبيره، سبحانه وتعالى -جل شأنه-، وتقدس سلطانه، وخضع كل شيء لقدرته وعظمته، جل جلال ربنا الكريم العظيم.
ولهذا الإيمان آثاره الاعتقادية ومسالكه العملية، فإذا أيقن العبد بذلك امتلأ قلبه إيمانًا بوحدانية الله وعظمته، ويرد أمور الكون كله إليه سبحانه، ويركن إليه، ويذل لجبروته وقوته، ويعلم أن جميع ما يقع من أعاصير عاتية ورياح مدمرة، أو أوبئة فتاكة، أو سيول مهلكة، يعلم أن هذا كله بقدر الله الملك الحق، ومظهر من مظاهر قدرته، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن أفعال الله -سبحانه- تقع بحكمة بالغة وقدرة مقتدرة.
وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتأثر بشدة ويتألم من التغييرات الكونية، ويخاف أن تكون عقوبة قدرية، ولذا كان يلزم الاستغفار والتضرع لله أن يذهب الشر والضر، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "يا رسول الله، النَّاسُ إذا رَأوا الغَيمَ فَرِحُوا، رَجَاءَ أنْ يَكُونَ فيه المطرُ، وَأراكَ إذا رَأيتَ غَيْما عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الكرَاهِيَةُ؟ فقال: يا عائشةُ، وَمَا يُؤمِّنُني أنْ يكونَ فِيه عَذَابٌ؟ قد عُذِّبَ قومٌ بالرِّيحِ، وقد رَأى قومٌ العذاب، فقالوا: (هَذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)[الأحقاف:24]" وفي رواية قالت: كان رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا رَأى مَخِيلَة فِي السَّمَاءِ أَقْبَلَ وأَدْبَرَ وَدَخَلَ وَخَرَجَ، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذا أمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عنه، فَعرَّفَتهُ عائشةُ ذلك، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَما أدْري؟ لَعله كما قال قومٌ: (فَلَمَّا رَأْوهُ عَارِضا مُستَقْبِلَ أودِيَتِهِمْ قَالوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا)"(رواه البخاري، ومسلم).
إنه يجب على المسلمين عامة والمسئولين بصفة خاصة، أن يتعاونوا في إزالة وتخفيف آثار هذه المصيبة، ويمدوا يد المساعدة لإخوانهم ولكل مبتلى في هذه السيول؛ فإن المرء ساعة البلاء لهو أحوج شيء إلى إخوانه، ويجب على كل من اؤتمن على عمل عام أن يراعي ربه في طرق ومصارف المطر وفيما تحت يده من مسئولية سيحاسب عليها لا شك حال الإهمال فيها والتفريط، فلنكن يدًا واحدة أمام هذه البلايا، ولنحسن الظن في ربنا ونتوكل عليه؛ فهو القادر وحده على رفع الضر.
نسأل الله العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة. ومن أجل بيان موقف المسلم من السيول والأعاصير، وضعنا بين يديك -أخي الخطيب- مجموعة خطب منتقاة توضح أهمية العظة والاعتبار بهذه السيول، وضرورة الوقوف مع المسلمين في محنتهم، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
التعليقات