اقتباس
فيا طالبي السعادة إن السعادة ليست في متاع زائل ولا في لذة عابرة ولا في سلطان متحول... إنما السعادة في الإيمان بالله وفي الأعمال الصالحة وفي القرب من الله وطاعته ومحبته، يقول ابن القيم: "فأطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته...
ما هي السعادة؟ ومن هو السعيد؟ سؤال يشغل بال الأدباء والشعراء والمفكرين... وما من إنسان على وجه هذه الأرض إلا وهو يبحث عن تلك السعادة لكن بطريقته الخاصة، فهدفهم جميعا واحد؛ هو الحصول على السعادة، لكن أساليبهم شتى.
فمنهم من يظن السعادة في جمع المال وكنز الذهب والفضة؛ فبالمال تُشترى السعادة؛ في شكل سيارات فارهة وأبنية شاهقة وأرصدة ضخمة وزوجات جميلة... ويجيبهم الشاعر:
ولست أرى السعادة جمع مال *** ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا *** وعند الله للأتقى مزيد
وكم كان المال سببًا في شقاء صاحبه، وانظر إلى قارون ما فعل به ماله مع كثرته ووفرته: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)[القصص: 81].
ومنهم من يطلب السعادة في الجاه والسلطان والشهرة والسطوة والأمر النافذ على رقاب الناس... فبسلطانه يكون مهابًا مطاعًا مرهوب الجانب... لكننا أبدًا لا ننسى صرخة ذلك المعذب: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)[الحاقة: 28-29]، فما نفعه ماله ولا سلطانه!
ومنهم من يطلب السعادة في كثرة الأولاد والأتباع الذين ينصرون المرء ويقون جانبه ويحملون اسمه... وكم من تابع تبرأ يوم القيامة من متبوعه، ومن متبوع تبرأ من تابعه: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا)[البقرة: 166-167].
***
فأين السعادة إذن إن لم تكن في كل ذلك المتاع؟ يجيبنا القرآن الكريم ويجلي لنا الأمر قائلًا: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)[سبأ: 37].
ويخاطب القرآن عقولنا ويستحث أفهامنا قائلًا: هب أنك تمتعت في دنياك بكل متاع وتنعمت بكل لذة، ثم كان مصيرك إلى النار، هل ينفعك ذلك المتاع بشيء؟! (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)[الشعراء: 205-207]... وهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يجيب ذلك التساؤل القرآن قائلًا: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب"(رواه مسلم)... ولا خير في لذة من بعدها سقر.
وبالمقابل أيضًا: لو تمرغت طوال حياتك على التراب بين الحسرات والآهات والكربات والفاقات... ثم كان مصيرك يوم القيامة إلى الجنة، هل يضرك شيئًا ساعتها ما لاقيت في دنياك؟! ويجيب النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفس الحديث السابق قائلًا: "ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط".
فيا طالبي السعادة إن السعادة ليست في متاع زائل ولا في لذة عابرة ولا في سلطان متحول... إنما السعادة في الإيمان بالله وفي الأعمال الصالحة وفي القرب من الله وطاعته ومحبته، يقول ابن القيم: "فأطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته، فمحبته ومعرفته قرة العيون، ولذة الأرواح، وبهجة القلوب، ونعيم الدنيا وسرورها، بل لذات الدنيا القاطعة عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا، ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك، فليست الحياة الطيبة إلا بالله".
يقول إبراهيم بن أدهم مستحضرًا ما يجد في قلبه من سعادة في قيام الليل وفي صيام النهار وفي التذلل في الأسحار: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف".
***
والإسلام إذ يقرر أن السعادة في طاعة الله، لا ينكر ما للأسباب الدنيوية من أثر في تحقيق السعادة؛ فللسعادتين؛ سعادة الدنيا وسعادة الآخرة أسباب لتحصيلها، وقد نقل لنا سعد بن أبي وقاص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء"(رواه أحمد).
ومن أسباب السعادة: ذكر الله -تعالى-، فقد قال القرآن الكريم: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
ومنها: الرضا بقضاء الله وقدره: فالراضي فرح سعيد، والجازع محطم تعيس، وفي الحديث: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له"(رواه مسلم).
ومنها: تفريج كروب المسلمين: فبإدخالك السرور عليهم تتخلل السعادة روحك ونفسك وقلبك، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن: يقضي عنه دينا، يقضي له حاجة، ينفس عنه كربة"(رواه البيهقي في الشعب).
***
هذا أحد السعداء يتحسر على العصاة الغافلين في متاهات دنياهم؛ كيف هم من السعادة محرومون وعن جنابها مبعدون: "مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه".
وهذا ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة".
وقال بعض العارفين: "إنه ليمر بالقلب أوقات، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب".
جعلنا الله وإياكم من السعداء في الدنيا والآخرة... ولأن الحديث عن السعادة ممتع جميل فقد جمعنا لكم ها هنا باقة من الخطب النافعة في هذا الخصوص؛ فإليك هي.
التعليقات
زائر
10-07-2024الله يجزاك خير الجزاء