بم تطيب الحياة وتُنال السعادة؟

عبدالله بن صالح القصير

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/الخطأ في فهم معنى السعادة وسبب ذلك 2/ المعيار في من يستحق الدنيا 3/ طيب الحياة تكون بطاعة الله تعالى

اقتباس

وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أنه يعطي الدنيا من يشاء من أوليائه المؤمنين، ومن أعدائه المكذبين، وأن من حكمة ذلك ابتلاء الطرفين، وإكرام المؤمنين الشاكرين، واستدراج المكذبين الجاحدين، وأن ذلك كله واقع بمشيئته، وبمقتضى حكمته الدائرة بين الفضل على الشاكرين والعدل في الجاحدين ..

 

 

 

الحمد لله العفو الغفور، الرؤوف الشكور، الذي وفق من شاء من عباده لمحاسن الأمور، وما فيه عظيم الأجور، فعملوا له أعمالاً صالحةً، يرجون تجارة لن تبور، ليوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، إنه غفور شكور.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رغم أنف كل مشرك كفور، وملحد ومنافق مغرور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، الذي بعثه الله بين يدي الساعة داعياً إلى هداه، فبشر بكل خير، وأنذر من كل شر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه إلى آخر الدهر.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله في جميع أموركم، وراقبوه واخشوه في سائر أحوالكم، واعملوا له أعمالاً صالحة، تطيب بها حياتكم، ويحسن بها مآلكم، فإن الله تعالى قد وعد بذلك من كان كذلك، فوعد ووعده الحق، وقال وقوله الصدق: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97]. وقال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ) [الرعد:29].

أيها المسلمون: يخطئ كثير من الناس ممن قل علمه وقصر فهمه إذ يظنون أن طيب الحياة وسعادة الأبد يتحققان لمن كثر ماله، وتيسرت له متع الدنيا الفانية، من شهي المآكل، وبهي الملابس، وعامر القصور، وفاره المراكب، وكثرة الأموال المخزونة، والأتباع الذين يحفون بالشخص يعظمونه ويخدمونه، ولو خلا قلبه من الإيمان أو ارتكب ما ارتكب من أنواع الكفر والفسوق والعصيان.

والحقيقة -أيها المسلمون-: أن هذا الظن لا يصدر إلا عن معرض عن تدبر القرآن، ولم يكن على علم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن من بيان، وإلا فإن من تدبّر آيات القرآن واطّلع على السنة، وفهمها على نحو فهم السلف الصالح من هذه الأمة؛ يتبين له أن التمتع بطيب المشتهيات، والتوسع في أمور الحياة؛ أمر مشترك بين المسلمين والكفار والأبرار والفجار (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء:20].

وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أنه يعطي الدنيا من يشاء من أوليائه المؤمنين، ومن أعدائه المكذبين، وأن من حكمة ذلك ابتلاء الطرفين، وإكرام المؤمنين الشاكرين، واستدراج المكذبين الجاحدين، وأن ذلك كله واقع بمشيئته، وبمقتضى حكمته الدائرة بين الفضل على الشاكرين والعدل في الجاحدين (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سبأ:36]. وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء:30].

أيها المسلمون: ومن بيان النبي صلى الله عليه وسلم أن بسط الرزق وسعته ليس دليلاً قطعيًّا على حظ من بسط له فيه، ولا على سعادته ومحبة الله له، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الدنيا عَرَضٌ حاضر يأكل منه البر والفاجر"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه" بل قد سمى الله تعالى المال الخالي عن صالح الأعمال فتنة لصاحبه وعذاباً، ونهى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين عن مد النظر إليه إعجاباً، فقال سبحانه: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55]. وقال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن:15].

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء". وهذا يقتضي من العاقل الحذر، وأن يعلم أنه مع سعة الدنيا وبسطتها عليه محفوف بالخطر، فضلاً عن أن يكون ذلك مقياساً لطيب الحياة والسعادة في الدارين، أو مغرياً على الإقامة على المعاصي مع الأمن من عقوبة رب العالمين.

أيها المسلمون: وقد جاء في صحيح السنة أن المكثرين من المال هم الأقلون يوم القيامة، إلا من بذلها في عباد الله من عن يمينه وشماله ومن خلفه ابتغاء وجه الله؛ ففي البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، وقليل ما هم".

وجاء في صحيح السنة أن من خطر الغنى أن يعوق أهله عن دخول الجنة، أو السبق إليها إن كان من أهلها، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء" وفيهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقفت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجَدِّ -يعني الغنى- محبوسون، غير أن أهل النار قد أمر بهم إلى النار". وفي حديث عند الترمذي بسند حسن عنه صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام" وهذا يفسر الذي قبله، وسببه -والله أعلم- ما يتعلق بالأموال من حقوق، ويلحق أهلها بسببها من تبعات.

أيها المسلمون: ومن المعلوم أيضاً أن الدنيا وإن انبسطت واتسعت، وأتت صاحبها على ما يريد؛ فإنها محفوفة بالأنكاد والأكدار، والشرور والأخطار، وأنواع المخاوف ومختلف الأضرار، وكلها منغصات للعيش، ومكدرات لصفو الحياة، فلا يهذبها وينقيها ويصرف عن العبد شر ما فيها، إلا الاستقامة على الدين، وأن يعيش المرء فيها مع سعتها عيشة الزاهدين، الموقنين بالرحيل، والعرض على الرب الجليل، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً وقنعه الله بما آتاه" وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً" وهو ما يسد الرمق.

أيها المسلمون: وبذلك يتبين أن طيب الحياة، والسعادة بعد الممات، لا تكون بكثرة الأموال وتنوع الممتلكات، ولا بالتمكن من الشهوات، مع الغفلة عن حق رب الأرض والسماوات، المطلع على الضمائر والنيات، وإنما تكون بطاعة رب العالمين، المبنية على الفقه في الدين، والإخلاص لله ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم من العاملين، وذلك بأداء فرائض الطاعات، وتكميلها بالنوافل المستحبات، واجتناب الكبائر الموبقات، والحذر من الصغائر المحقرات، وترك ما لا يعني، واتقاء الشبهات، وسؤال الله الثبات على الحق حتى الممات.

أيها المسلمون: طيب الحياة وسعادة الأبد، لا تُنال بكثرة العرض، ولا بالإخلاد إلى الأرض، وإنما تنال بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وإخلاص الدين لله رب العالمين، وإقام الصلاة والمحافظة عليها في المساجد مع جماعة المسلمين، وأداء الزكاة والحج والصيام، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وعشرة الزوجة بالمعروف، وحسن تربية الأولاد، وبسط اليد بالنفقات الواجبات والمستحبات على القرابات وذوي الحاجات، والإحسان إلى الأيتام والضعفاء والمساكين، وإغاثة الملهوفين المكروبين والمنكوبين، فإن هذه الأعمال من خصال أهل الإيمان والتقوى، الذي وعدهم الله بكل خير في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:2-3]. وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4]. وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:5]. وقال تعالى عند ذكر النار: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) [الليل:17-18]. وقال سبحانه: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) [مريم:63]. وقال جل ذكره: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس:62-64].

أيها المسلمون: لقد سبق المتقون إلى كل بر، فحازوا كل خير؛ من شرح الصدر ويسر الأمر، وذهاب الهم وانكشاف الغم، والزيادة من صالح العمل، والسداد في القول، وبركة العمر، وسعة الرزق، والطهارة من سيء الخلق، مع ما لهم عند الله من عظيم الأجر، ورفيع الذكر، ورفعة الدرجات، وحط الخطيئات، وبذلك تطيب الحياة وتتحقق السعادة من بين المخلوقات، وتنال الغرف العالية من الجنات، والفوز برضوان رب الأرض والسماوات.

فمن اتقى الله وأدى واجب ما عليه من حق الله، وتزود بنوافل العبادات، وأكثر من فعل المعروف وبذل الصدقات - فتح الله له أبواب الرزق، ويسر له أسباب الكسب، وجعل في قلبه القناعة والرضى، اللذين هم أغنى الغنى، ونعم المال الصالح للرجل الصالح؛ فالعمل الصالح هو همة التقي، والمال الصالح لا يستغني عنه ولي، والله تعالى يحب المؤمن القوي، والغني التقي، ويحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال؛ فمن أخذ المال من حله، وأدى واجب حقه - فنعم المعونة هو إذا لم يشغل عن طاعة الله، أو يبذل في معصية الله؛ فإن المؤمن التقي يعيش به في نفسه وأهله عيشة راضية مرضية، وحياة سعيدة زكية، قد قنعه الله بما آتاه، ومتعه به متاعاً حسناً في دنياه، ووفقه للاستعانة به على طاعته، وبذله في مرضاته، فقدم بين يديه عملاً صالحاً طيباً يرجو عليه ثواب الله، فاتقوا الله أيها المؤمنون (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

المرفقات

870

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات