اقتباس
تقديم القدوة الحسنة: فعلى الداعية إلى الخير أن يسبق من يدعوهم إلى ذلك الخير، وعلى الناهي عن الشر أن يكون أول المنتهين عنه، وإننا لنحفظ قول نبي الله شعيب لقومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)[هود: 88]، وقالوا: "حال رجل في ألف رجل، خير من مقالة ألف رجل لرجل".
كلام الناس كثير، ونفعه قليل.. ولا شيء في جسد الإنسان ينافس القلب في دوام حركته ونشاطه كاللسان؛ فإن الناس لا ينفكون يتكلمون ويتحاورون ويتناقشون ويتجادلون.. يقصُّون القصص ويرون الأخبار ويسردون الحكايات ويستنتجون النتائج والأسباب والغايات... كلام في كلام بعد كلام إثر كلام، نفع قليل وضرر كبير، فكلما أقللت الكلام وأرحت اللسان وأغلقت الفم كان ذلك خيرًا لك، فدائمًا أبدًا صمتك خير من كلامك، لذلك يقول وهب بن منبه: ""أجمعت الحكماء على أن رأس الحكمة الصمت"، وقال الفضيل: "لا حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان""(فيض القدير، للمناوي).
اللهم إلا نوعًا واحدًا من الكلام، فذاك الذي يفضل الصمت ويبزه، وذاك الذي قوله خير من عدمه؛ إنه الذي ذكره القرآن الكريم فقال: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33]؛ فما على الأرض قول أحسن من قول الداعي إلى الله ولا أشرف منه، وما هناك من كلام هو أفضل من كلامه، ولا محاورة هي خير من محاورته.
ولقد قرر القرآن الكريم كل ما سبق قائلًا: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 114].
بل ربما كان الصمت عن هذا النوع من الكلام معصية وكبيرة من الكبائر؛ فعن حذيفة بن اليمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
والعكس بالعكس؛ فإن الدعاة إلى الله بإخلاص هم بلا شك من المفلحين؛ فالله -تعالى- يقول: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران: 104].
وللداعي إلى الله -تعالى- أجر لا حد له: فهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول لعلي -رضي الله عنه-: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم"(متفق عليه)، وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا"(رواه مسلم).
ولا منتهى لفضائل الداعي إلى الله -تعالى-، يقول ابن القيم: "إن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل، ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله -تعالى- إخبارًا عن المسيح: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ)[مريم: 31]؛ أي: معلمًا للخير داعيًا إلى الله مذكرًا به مرغبًا في طاعته، فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه والاجتماع به، بل تمحق بركة من لقيه واجتمع به"(رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه).
***
لكن لكي تنال هذه الأجور، وتبلغ تلك المنزلة للدعوة إلى الله وللداعين إليه -تعالى- لابد من أن تراعي أصولًا وضوابط وآدابًا، لتكون داعيًا إلى الله على بصيرة: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)[يوسف: 108]، ومن تلك الآداب ما يلي:
أولًا: الحكمة والموعظة الحسنة: فذلك أمر الله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[النحل: 125]، والحكمة هي: "فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي"(مدارج السالكين، لابن القيم).
وأما الحُسن في الموعظة فيتضمن ما يلي: "الاختصار فيها: فالموعظة الحسنة لا بد أن تكون مختصرة، فالنفس البشرية لا تحتمل الإطالة...
التنويع فيها: فكثير من الدعاة يركز على جانب واحد في الوعظ.. وهذا لا شك أنه مدعاة إلى السآمة والملال...
ترك وعظ المنشغل عنك: فمن حسن الموعظة أن من كان منشغلا عنك بحديث أو عمل وكذا المستثقل والمكابر أن تترك وعظهم، وأن تؤجله إلى وقت آخر أنفع لك ولهم"(البصيرة في الدعوة إلى الله، لعزيز العنزي).
ويتضمن كذلك:
ثانيًا: اللين في الدعوة: فرغم أن البشرية لم تعرف من هو أطغى من فرعون الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[النازعات: 24]، فقد أمر الله -عز وجل- موسى وهارون -عليهما السلام- قائلا: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 43-44]، وقديمًا قال صالح بن عبد القدوس:
لو سار ألف مدجج في حاجة *** لم يقضها إلا الذي يترفق
إن الترفق بالمقيم موافق *** وإذا يسافر فالترفق أوفق
ثالثًا: تقديم القدوة الحسنة: فعلى الداعية إلى الخير أن يسبق من يدعوهم إلى ذلك الخير، وعلى الناهي عن الشر أن يكون أول المنتهين عنه، وإننا لنحفظ قول نبي الله شعيب لقومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)[هود: 88]، وقالوا: "حال رجل في ألف رجل، خير من مقالة ألف رجل لرجل".
ثم الضوابط والأصول والآداب كثيرة لا نستطيع حصرها في هذه المقدمة القصيرة.
***
ولأننا لم نذكر أدلة وجوب الدعوة إلى الله، ولم نحدد على من تقع مسئولية الدعوة إلى الله، ولم نسرد إلا طرفًا يسيرًا من فضلها ومن فضل الدعاة والمصلحين، ولأن ما تركنا أكثر بكثير مما ذكرنا، فإننا قد جمعنا ها هنا في ملتقى الخطباء باقة من الخطب المنتقاة لتتم الأمر وتؤصله وتُفصِّل المجمل وتيسره، فإليك:
التعليقات