اقتباس
والحاصل أنه لم يأت في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة نص يبين ويوضح متى كانت بالتحديد رحلة الإسراء والمعراج، وكأن التاريخ يقول لنا: ليس المهم متى وقعت ومتى حصلت تلك الحادثة، ولكن المهم أن نستفيد منها ونستقي الدروس والعبر...
هي ليلة التقت فيها الأرض بالسماء، وعاين فيها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الملأ الأعلى، وقابل النبيين في السموات العلا، بل صلى بهم قبل ذلك إمامًا داخل المسجد الأقصى، ورأى من الآيات في الأرض والسموات، وعاد بجائزة ومنحة ربانية للأمة كلها؛ تلك هي الصلوات الخمس التي يقف فيها العبد أمام خالقه ومولاه.
تلك كانت النهاية، فترى ما هي البداية؟
البداية كانت في أحزان متتاليات أصابت النبي -صلى الله عليه وسلم- في عام سمي لكثرة ما وقع فيه من أحزان بـ"عام الحزن"؛ ذلك الذي مات فيه عمه أبو طالب الذي كان يدفع عنه بعض أذى قريش وكيدها، وماتت فيه زوجته خديجة -رضي الله عنها- التي كانت تؤازره وتقوي من عزيمته...
وازداد أذى قريش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد موت عمه، فخرج إلى الطائف لعله يجد ناصرًا ومؤيدًا ومعينًا، لكنه لم يجد منهم إلا الصدود والإعراض والتسفيه، فعاد كاسفًا حزينًا يقصد بلده وبيته، فإذا بأهل مكة يمنعونه من دخولها ويحولون بينه وبينها، وما دخلها إلا في جوار المطعم بن عدي.
فأراد الجليل -سبحانه وتعالى- أن يثبت قلبه ويشرفه ويرسل إليه رسالة طمأنة مفادها: إن كان أهل الأرض قد قلوك ونبذوك وطردوك فإن أهل السماء في شوق لأن يستقبلوك ويكرموك... فكانت تلك الرحلة الأرضية السماوية.
***
وإن أصدق وأبرع من يقص عليك وقائع هذه الحادثة هو صاحبها -صلى الله عليه وسلم- حين يقول: "أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل -عليه السلام- بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل -صلى الله عليه وسلم-: اخترت الفطرة.
ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي، ودعا لي بخير...".
ثم قابل -صلى الله عليه وسلم- في السماء الثانية عيسى ويحي، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى وفي السابعة إبراهيم -صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين.
وكان إبراهيم "مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إلي ما أوحى".
ويفرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وينصحه موسى -عليه السلام- أن يسأل ربه التخفيف، حتى قال له ربه: "يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة"(متفق عليه، واللفظ لمسلم).
***
ومع عظمة هذه الحادثة وأهميتها، فقد اختلف العلماء في وقت حدوثها اختلافًا كبيرًا، فمن قائل أنها وقعت في أوائل البعثة... ومن قائل أنها كانت بعد البعثة بعشر سنين... ومن قائل أنها تلك الرحلة كانت قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بسنة واحدة... ومن قائل أنها كانت قبل الهجرة بستة عشر شهرًا... وهناك من قال غير ذلك.
وكما اختلفوا في سنتها فقد اختلفوا كذلك في أي شهر وقعت، فعلى قول الزهري وعروة بن الزبير أنها وقعت في شهر ربيع الأول، وعلى قول إسماعيل السدي أنها كانت في شهر ذي القعدة، ومن قائل أنها كانت ليلة السابع والعشرين من شهر رجب...
والحاصل أنه لم يأت في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة نص يبين ويوضح متى كانت بالتحديد رحلة الإسراء والمعراج، وكأن التاريخ يقول لنا: ليس المهم متى وقعت ومتى حصلت تلك الحادثة، ولكن المهم أن نستفيد منها ونستقي الدروس والعبر.
***
ومن الدروس والمستفادة من هذه الرحلة: طلاقة قدرة الله -عز وجل-: ففي ساعة من ليل كانت تلك الرحلة السماوية الأرضية التي لا يستطيعها البشر.
وأخطأ أناس استعظموا هذه الرحلة على قدرته -سبحانه وتعالى-؛ فقالوا: كان الإسراء والمعراج بالروح دون الجسد، وكذبوا؛ فلو كانت بالروح منامًا كما ادعوا إذن فلماذا كذبه أهل قريش؟! ولما استخدم الجليل لفظ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)[الإسراء: 1]، فـ"سبحان" لفظ يذكر للتعجب من عظائم الأمور، ثم قوله -تعالى-: "بعبده" يشمل الروح والجسد...
ومنها: تمايز الناس وتفاضل قلوبهم وعقولهم: فمن مكذب معاند مستهزئ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما أخبرهم عن رحلة الإسراء فقط دون رحلة المعراج، ومن "صِدِّيق" لما علم بما حدث قال لأهل مكة: "إن كان قال فقد صدق"، فسبحان من فاضل بين القلوب؛ "قلب يجول حول العرش وقلب يجول حول الحش"(مجموع الفتاوى، لابن تيمية)، والحش: هو الخلاء؛ موضع البول والغائط.
ومنها: أهمية المسجد الأقصى ومكانته في الإسلام: فقد اختاره الله -تعالى- ليكون الإسراء إليه، وشرَّفه بأن يجمع فيه جميع الأنبياء حتى يصلي بهم نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ولا عجب فهو ثاني مسجد بُني على وجه الأرض، وهو أول القبلتين، وثالث الحرمين التي تشد إليها الرحال...
ومنها: مكانة الصلاة في الإسلام: فقد فُرضت فوق السموات السبع، عند سدرة المنتهى، وهي عمود الإسلام، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة...
ثم لا تنتهي الدروس والعبر، فنتيح المجال الآن لخطبائنا ليزيدوا الأمر وضوحًا، وليكملوا تفاصيل تلك الرحلة العظيمة، وليستخرجوا منها العبر، وهذي بعض خطبهم:
التعليقات