اقتباس
لئن كان إخلاص التوجه إلى الله -عز وجل- بالأعمال هو شطر الطريق الموصل إلى قبولها؛ فإن الرياء هو قطاع الطريق الذين يسلبون العبد جهده وتعبه ونصبه، ويستولون على عمله فيفرغونه من محتواه، فيصير العمل بعد هجوم الرياء على القلب مجرد قشرة ظاهرية خاوية الباطن، سرعان ما تنهار عند أول ابتلاء أو محنة، فإنه إذا عاش القلب عامرًا بالرياء ومراقبة الناس وترقب نظر الخلق إليه فهي النهاية إلا ..
لئن كان إخلاص التوجه إلى الله -عز وجل- بالأعمال هو شطر الطريق الموصل إلى قبولها؛ فإن الرياء هو قطاع الطريق الذين يسلبون العبد جهده وتعبه ونصبه، ويستولون على عمله فيفرغونه من محتواه، فيصير العمل بعد هجوم الرياء على القلب مجرد قشرة ظاهرية خاوية الباطن، سرعان ما تنهار عند أول ابتلاء أو محنة، فإنه إذا عاش القلب عامرًا بالرياء ومراقبة الناس وترقب نظر الخلق إليه فهي النهاية إلا أن تتداركه رحمة الله فيطرد هذه الأشباح، ويستبدل بها أرواحًا طيارة من المراقبة والإخلاص وصدق التوجه.
والمرائي شخصية ضعيفة متحولة، لا يقر على قرار، بمجرد أن تتغير قناعات الناس فإنه يتغير معها إرضاءً لهم ولنظرهم إليه، فإذا توجه الناس يمينًا توجه معهم، وإذا توجهوا يسارًا توجّه معهم، وإذا تحركوا تحرك ودعا إلى الحركة، وإذا سكنوا سكن وكانت الحكمة في السكون، يبتغي منهم حسن الثواب والمدح، ويرجو منهم الأجر والمثوبة لا من ربهم سبحانه وتعالى.
وقلب المرائي قلب متداعٍ متهاوٍ، فهو يتحرك لا عن قناعات ثابتة بما يفعل، وإنما قناعاته هي قناعات من حوله، لذا فإن قلبه لا يرابط على حقيقة ثابتة يحميها ويدافع عنها، وإنما هو قلب في مهب الريح، أينما حملته الرياح سار معها، فهو في الميزان كالريشة لا وزن لها ولا ثقل، يداس بالأقدام إذا اتضحت حقيقته، وينفض الناس عنه حين يخلع عنه قناعه.
لكل هذه الأسباب وغيرها حذّر الإسلام من الرياء وجعله شركًا أصغر يعاقب تاركه عقابًا شديدًا في الآخرة، بل إن عمله عليه مردود محبط، يجده يوم القيامة هباءً منثورًا في وقت هو أحوج ما يكون فيه إلى حسنة واحدة تنجيه من عذاب جهنم عياذًا بالله؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".
لذلك كان سلفنا الصالحون أحرص ما يكونون على إخفاء أعمالهم دفعًا للرياء عن أنفسهم من جانب، وجلبًا للإخلاص وتنميةً له من جانب آخر، فكلما خفي العمل عن أعين الناس كان ذلك أدعى لاستدعاء الإخلاص ودفع الرياء وتنقية القلب من غوائل الشرك الخفي والعمل لغير الله -سبحانه وتعالى-.
إلا أن هناك أعمالاً هي في الأصل أعمال ظاهرة لا يصح كتمانها، كالدعوة إلى الله تعالى والخطابة وتعليم الناس وصلاة الجماعة وما شابهها، فهذه ينبغي على فاعلها أن يقوم بها ويجاهد نفسه على إخلاصها لله تعالى، ولا ينبغي له تركها بحجة الخوف من الرياء أو سوء التوجه، فإنْ تَرَكَهَا كلُّ مَنْ شك في إخلاصه دون بذل مجهود في تحقيق الإخلاص فيها فسوف تتعرض هذه الأعمال للاندثار، وستصاب الأمة بحالة من العجز في أداء هذه الواجبات التي يترتب عليها صلاح المجتمع أو فساده، وعلى المربين أن يبذلوا مزيدًا من الجهود في اجتثاث نبته الرياء من قلوب التلاميذ والمتربين لاسيما الذين يُنتظر أن تبنى الدعوة على أكتافهم، حيث سيكونون قدوة لمن بعدهم.
أما بقية الأعمال التي لا حاجة لإظهارها أمام الناس فالأفضل فيها أن تكون خفية بعيدة عن أنظار الناس، حتى لا تكون مدعاة للرياء والنفاق كصيام النوافل وقيام الليل والصدقات وغيرها، إلا أنه في حالة ما إذا كان الإنسان موضع قدوة -كالعلماء والدعاة والمصلحين- فإنه يستحب في حقهم أن يظهروا بعضًا مما يفعلون ليقتدي الناس بهم، وليكون في ذلك نشرًا للعمل الصالح بين الناس.
وفي مختاراتنا لهذا الأسبوع اصطفينا بعضًا من الخطب التي تحذر من خطر الرياء على الفرد وعلى المجتمع، نبين فيها أثر هذا الخلق السيئ في حبوط الأعمال الصالحة مهما عظمت، راجين من الله تعالى أن يصلح قلوبنا وأن يخلصها من الرياء والنفاق والأمراض.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم