الأخلاق الإسلامية مع الدفاع عن سيد البرية (3)

عمر القزابري

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ أثر خلق سلامة الصدر على الفرد والمجتمع 2/ صيانة الشريعة للمجتمع من آثار فساد الصدور 3/ حثّ الإسلام على تعهّد القلوب وإصلاحها 4/ استحباب البغض في الله تعالى ومجافاة أعدائه 5/ ضرورة الاهتمام بإخواننا السوريين

اقتباس

ليس أروحَ للمرء، ولا أطْرَدَ لهمومه، ولا أقرَّ لعينه، من أن يعيش سليم القلب، مبرأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد؛ إذا رأى نعمة تنساق لأحد رضي بها، وأحس فضل الله فيها، وفقر عباده إليها، وذكر قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم ما أصبح بي من نعمة، أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد، ولك الشكر".

 

 

 

 

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمـــُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.

 

وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

 

معاشر الصالحين: إن الناظر إلى أحوال الناس اليوم في جانب علائقهم ومعاملتهم مع الغيب يقف مع صور غريبة عجيبة، ويدرك على وجه الاستيقان أن هناك خللا خطيرا، وبوناً شاسعا بين تعاليم الدين الراقية التي تركز بشكل كبير على جانب المعاملات، وبين واقع يكاد يقترب من دائرة الخطر، وربما دخلها.

 

فلا تجالس شخصا إلا واشتكى لك من معاملة فلان وإساءته وظلمه وأخْذه لحق غيره، أو عن حقده وحسده وغله ومكره، أو كذبه وتزويره وظلمه، وغير ذلك من ألوان الظلم والإساءة قولا وفعلا؛ حتى أصبح الاحتياط في التعامل مع الآخرين هو القاعدة.

 

ومع الأسف! استوى في ذلك الذين ينسبون إلى الالتزام في الغالب والذين يبدو من حالهم قلة أو عدم الالتزام!.

 

الكل يشتكي من الكل، وهذا على مستوى الأفراد والجماعات؛ مما أوغر الصدور، وسبب النفور، وهذا الواقع ساهم بشكل كبير في انتشار الهموم والغموم والأنكاد والأحقاد.

 

في غمرة هذا الواقع تكثر الحاجة إلى خُلُق عظيم، من اتصف به كان في منأى عن هذه الأحوال المخزية والأعمال المردية، وعاش بسلام، ومات بأمان، وسلمت روحه من الخلل، وسلم جسده من العلل، وعاش بين الناس شامة ترنو إليه الأعين، وتحمد سيرته القلوب؛ إنه خلق: سلامة الصدر.

 

أيها الأحباب: ليس أروحَ للمرء، ولا أطْرَدَ لهمومه، ولا أقرَّ لعينه، من أن يعيش سليم القلب، مبرأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد؛ إذا رأى نعمة تنساق لأحد رضي بها، وأحس فضل الله فيها، وفقر عباده إليها، وذكر قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم ما أصبح بي من نعمة، أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد، ولك الشكر".

 

وإذا رأى أذى يلحق أحدًا من خلق الله رثى له، ورجا الله أن يفرج كربه، ويغفر ذنبه، وتذكر مُنَاشدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربه حينما يقول: " إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا، وَأَيَّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا؟!".

 

وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة، راضيًا عن الله وعن الحياة، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمى؛ فإنَّ فساد القلب بالضغائن داء وبيل، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش، كما يتسرب السائل من الإناء المثلوم!.

 

ونظرة الإسلام إلى القلب نظرة خطيرة تقتضي الوقوف عندها مليّا؛ فالقلب الأسود يفسد الأعمال الصالحة، ويطمس بهجتها، ويعكر صفوها؛ أما القلب المشرق فيسوق أنواع الخير إليه، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال:  "يا رسول الله، أي الناس أفضل؟" قال: "كُلُّ مَخْمُومِ القلب، صَدوق اللسان" قيل: صدوق اللسان نعرفه؛ فما مَخْمُوم القلب؟ قال: "هو التقيُّ النقيُّ، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" رواه ابن ماجه.

 

ومن ثم كانت الجماعة المسلمة حقاً هي التي تقوم على عواطف الحب المشترك، والود الشائع، والتعاون المتبادل، والمجاملة الرقيقة؛ لا مكان فيها للفردية المتسلطة الكنود، بل هي، كما وصف القرآن:  (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر:10].

 

إن الخصومة إذا نمت، وغارت جذورها، وتفرعت أشواكها، شلت زهرات الإيمان الغضة، وأذوت ما يوحي به من وفاق وسلم وتراحم، وحينها لا يكون في أداء العبادات المفروضة أثر ينعكس على الفرد ولا على المجتمع.

 

بل إن أصحاب الخصومات وعشاق العداوات كثيرا ما تتدلى بهم عداوتهم إلى اقتراف الصغائر المسقطة للمروءة، والكبائر الموجبة للّعنة، تجد أحدهم يتربص بك ولا يرى فيك إلا الجانب السيئ، إلا أخطاءك؛ أما حسناتك فإنه في عمى عنها لأن عين السخط تنظر من زاوية مظلمة فهي تعمى عن الفضائل وتضخم الرذائل، وقد يذهب بها الحقد إلى التخيل والافتراض للأكاذيب.

 

ولله در القائل:

رَأَيتُ حُسيناً كانَ شَيئاً مُلَفَّفاً *** فَكَشَّفَهُ التَمحيصُ حَتّى بَدا لِيا

فأَنتَ أَخي ما لَم تَكُن لِيَ حاجَةٌ *** فَإِن عَرَضَت أَيقَنتُ أَن لا أَخا لِيا

فـلستُ بـراءٍ عَـيْبَ ذي الـوُدِّ كُـلَّه *** ولا بعضَ ما فيه إذا كـنتُ راضـيا

فعـينُ الرِّضَا عـن كُلِّ عـيبٍ كلـيلةٌ  *** كما أَنَّ عينَ السّخْطِ تُبدي المساويا

 

وذلك كله مما يسخطه الإسلام، ويحاذر وقوعه؛ بل ويرى منه أفضل القربات، قال رسول الله: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر؛ ولكن تحلق الدين" رواه الترمذي.

 

أيها الأحباب: ربما عجز الشيطان أن يجعل من الرجل العاقل عابد صنم، ولكنه، لَعَنَه الله، وهو الحريص على إغواء الإنسان وإردائه في المهالك، لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه، وذلك بإيقاد نيران العداوة في القلوب، فإذا اشتعلت استمتع الشيطان برؤيتها وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم، وتلتهم علائقهم وفضائلهم؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب؛ ولكنه لم ييأس من التحريش بينهم" رواه مسلم.

 

إن الشر إذا تمكن من الأفئدة فتنافر ودها وانكسرت زجاجتها ارتد الناس إلى حال القسوة والعناد، يقطعون فيها ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، وقد تيقن الإسلام لبوادر الجفاء فلاحقها بالعلاج قبل أن تستفحل وتستطيل إلى عداوة فاجرة.

 

قد يسيء أحد إليك فتشعر بالحزن والألم فتضيق وتعزم على قطع صاحب الإساءة؛ ولكن الإسلام العظيم لا يرضى أن تنتهي الصلة بين مسلم ومسلم إلى هذا المصير القاتل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا؛ وكونوا -عباد الله- إخوانا؛ ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" رواه البخاري. ثلاث، أي: ثلاثة أيام.

 

وهذا التوقيت فترة تهدأ فيها الحدة وينصرف الغضب، ثم يكون لزاما على المسلم بعده أن يواصل إخوانه، وأن يعود معهم سيرته الأولى.

 

والإنسان في كل نزاع أحد رجلين: إما أن يكون ظالما، أو أن يكون مظلوما؛ فإن كان ظالما فينبغي أن يقلع عن ظلمه وأن يصلح سيرته وأن يستل الضغن من قلب المظلوم، وذلك برد الحق إليه، والاعتذار إليه، وطمأنته؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كانت عنده مظلمة لأخيه من عِرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم -يعني يوم القيامة- إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" رواه البخاري.

 

أما المظلوم فقد أمره الإسلام أن يلين ويسمح، وأن يمسح الأخطاء بقبول المعذرة؛ لأن رفض المعذرة خطأ كبير في ميزان الإسلام، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل عذره كان عليه مثل خطيئة صاحب مَكْسٍ" رواه ابن ماجه، والمَكْسٍ هو صورة خبيثة من صور نهب المال.

 

وبهذا الإرشاد الجميل الجليل للطرفين يحارب الإسلام الأحقاد، ويقتل جرثومتها من المهد، ويرتقي بالمجتمع المؤمن إلى مستوى رفيع من الصداقات المتبادلة، والمحبة الصافية الراقية.

 

إن هناك أناساً -والعياذ بالله- رسب الغل في أعماق النفوس منهم فلا يخرج منها، وكثير من أولئك الذين يحتبس الغل في أفئدتهم  لا يستريحون إلا إذا أرغوا وأزبدوا وآذوا وأفسدوا، صدورهم في ضيق ونكد، معذبون لا راحة لهم ولا هناء، حقد وغل وبغض وكره وتتبع للعورات وبحث عن المتاعب وعشق لاقتناص النقائص، هوايتهم كشف المستور، متعتهم سرد الفضائح، هلكهم ومرضهم إذا رأوا غيرهم ينعم باليمن، قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].

 

قال الإمام الضحاك: "السليم هو الخالص"، قال الإمام القرطبي معلقا على هذا القول: "وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه، وهو حسن، أي الخالص من الأوصاف الذميمة، والمتصف بالأوصاف الجميلة".

 

ثم ساق الإمام القرطبي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه: "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير"، يعني على فطرة ونقاء وصفاء.

 

وقال الإمام الفخر الرازي: "أما السليم -يعني القلب السليم- ففيه ثلاثة أوجه: الأول، وهو الأصح، أن المراد منه سلامة القلب عن الجهل والأخلاق الرزيلة" اهــ.

 

جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّرَ فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي أخلص قلوب من شاء من عباده، واجتباهم إليه فقاموا على باب وداده، وملأ قلوبهم بحبه فانشغلوا به عن عباده، فكانوا مصادر للسلام والسلم في أرضه وبلاده.

 

والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي كان أحسن الناس بشرى، وأسلمهم صدرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتبعهم إلى يوم الفصل العظيم.

 

معاشر الصالحين: إن سلامة الصدر تفرض على المؤمن أن يتمنى الخير للناس إن عجز عن سَوْقِهِ إليهم بيده؛ أما الذي لا يجد في الناس شرا فيختلقه اختلاقا وينتحله لهم انتحالا ويزوّره عليهم تزويرا فهو أفاك صفيق، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النور:19].

 

ومن فضل الله على العباد أنه -سبحانه- استحب ستر عيوب الخلق ولو صدق اتصافهم بها، وما يجوز لمسلم أبداً أن يتشفى بالتشنيع على مسلم ولو ذكره بما فيه، فصاحب الصدر السليم  يأسى لآلام العباد ويشتهي لهم العافية، أما التلهي بسرد الفضائح وكشف الستور وإبداء العورات فليس مسلك المسلم الحق، ومن ثَم حرّم الإسلام الغيبة؛ إذ هي متنفس حقد مكظوم، وصدر من الرحمة محروم.

 

عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " أتدرون ما الغيبة؟"، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه"، أي: كذبت عليه وافتريت. رواه مسلم.

 

ومن آداب الإسلام التي شرعها لحفظ المودات واتقاء العداوات تحريم النميمة؛ لأنها ذريعة إلى تكدير الصفو وتغيير القلوب، ولقد كان النبي  ينهى أن يبلغ عن أصحابه ما يسوؤه، قال -عليه الصلاة والسلام-:"لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر" رواه أبو داود.

 

وعلى من سمع كلاما سيئاً في حق أحد أن يستره، وأن لا يوسع الخرق على الراقع، فرب كلمة شر تموت مكانها لو تركت حيث قيلت، ورُبّ كلمة شر سعّرت الحروب؛ لأن غراً نقلها ونفخ فيها، وأصبحت شرارة تنتقل بالويلات والخطوب.

 

وسلامة الصدر -أيها الإخوة- فضيلة تجعل المسلم لا يربط بين حظه من الحياة ومشاعره مع الناس، ذلك أنه ربما فشل حيث نجح غيره، وربما تخلف حيث سبق آخرون؛ فمن الغباء ومن الخسة أن يلتوي الحقد بالمرء فيجعله يتمنى الخسارة لكل إنسان، لا لشيء إلا لأنه لم يربح! وجمهور الحاقدين تغلي مراجل الحقد في أنفسهم؛ لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما يتمنونه لأنفسهم قد فاتهم وامتلأت به أكفّ آخَرين، وهذه هي الطامة التي لا تدع لهم قرارا.

 

وقديما رأى إبليس -لعنه الله- أن الحظوة التي تشهاها وتمناها قد ذهبت إلى آدم؛ فأقسم ألّا يترك أحداً يستمتع بها بعد أن حرمها: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:16-17].

 

هذا الغليان الشيطاني هو الذي يضطرب في نفوس الحاقدين ويفسد قلوبهم وقد أهاب الإسلام بالناس أن يبتعدوا عن هذا المنكر وأن يسلكوا في الحياة نهجا أرقى وأهدى.

 

وسلامة الصدر -أيها الكرام- تختصر المسافات، وتوصل بسرعة وجهد قليل إلى أعلى الدرجات؛ بل ربما سبق سليم الصدر القائم الصائم، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنا جلوسا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة"، فطلع رجل من الأنصار تندف لحيته -تقطر- من وضوئه.

 

فلما كان الغد في نفس الوقت قال -عليه الصلاة والسلام- مثل ذلك؛ فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى.

 

فلما كان اليوم الثالث قال -عليه الصلاة والسلام- مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام الرجل تبعه عبد الله بن عمرو -أي: تبع الرجل- فقال له: إني لاحَيْتُ أبي –أي: خاصمته- فأقسمت ألّا أدخل عليه ثلاثا؛ فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم.

 

قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تقلب في فراشه ذكر الله -عز وجل- وكبر حتى ينهض لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا.

 

فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله قلتُ: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة"، فطلعت أنت ثلاث مرات؛ فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل! فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟.

 

قال: ما هو إلا ما رأيت، قال عبد الله: فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك.

 

وفي رواية البزار:  ما هو إلا ما رأيت يا ابن أخي، إلا أني لم أبت ضاغنا على مسلم.

 

أيها الكرام: إن الذي يعيش بين الناس مريضا، مراقبا للخلق، منشغلا بهم، يعد أنفاسهم، يراقب نجاحاتهم؛ حسدا وبغيا، هذا في الحقيقة شخص واهن العزم، ذليل اليد، جاهل بربه وبسنته في كونه، ذلك أنه لما فاته الخير لأمر ما تحول يكيد للناجحين.

 

حَسَدوا الفَتَى إذْ لم ينالوا سَعْيَهُ *** فالقومُ أعداءٌ له وخُصُومُ

كضرائرِ الحسناءِ قُلْنَ لوجْهِهَا *** حَسَدَاً وبَغْيَاً إنهّ لَذميم

وترى اللبيب مُحسَّداً لم يَجْتَرِمْ *** شتْم الرجالِ وعرضُهُ مَشْتُوم!

 

وكان أجدى عليه أن يتحول إلى ربه فيسأله من فضله؛ فإن خزائن الله ليست حكرا على واحد بعينه، ثم يستأنف السعي في الحياة بعدئذ؛ فلعل ما عجز عنه في البداية، يدركه ثانية، إن هذا لا ريب أشرف من الضغينة على الآخرين والعداوة التي نهى عنها الإسلام، والكراهية هي التي تنشب وتنشأ من أجل الدنيا وأهوائها ومن أجل الطمع في اقتناص لذائذها.

 

أما البغض لله، والغضب للحق، فشأنٌ آخَر، ليس على المسلم جناح أبدا في أن يقاطع حتى الموت من يفسقون عن أمر الله أو يعتدون على حدوده، وليس عليه من لائمة في أنْ يكنّ لهم البغضاء؛ بل إن ذلك أمارات الإيمان الصحيح، وأمارات الإخلاص لله وحده.

 

وقد أمرنا الله -عز وجل- أن نجافي أعداءه ولو كانوا أقرب الناس إلينا، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة:23].

 

وابتعاد المسلم عمن تسوء صحبتهم أو من يغرون بالتهاون والتفريط بحق الله أمر واجب؛ عقابا لهم إلى أجل محدود أو ممدود، حسب ما تقتضيه المصلحة: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) [المجادلة:22].

 

أيها الأحباب الكرام: يعيش إخواننا في سوريا ما يعيشون من الألم والظلم والقهر، وخصوصا في مدينة القصير التي تدك بدون رحمة ولا شفقة من طرف المجوس الأنجاس وأذنابهم وأعوانهم، على مرأى ومسمع من العالم، وفي خذلان غريب عجيب من أمة أراد لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تعيش واقع الجسد فقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

 

فمن الواجب على كل مسلم أن يحس بمعاناتهم، وألا تغيب قضيتهم عن باله ووجدانه، وأضعف الإيمان أن يمد يده إلى من يملك مفاتيح الأمور داعيا لهم، مستغيثا بربه في تفريج كروبهم وهمهم.

 

فليس من الأخوة أبداً ولا من اللياقة ولا من اللباقة أن تهمش قضيتهم، ولا أن تعتبر شأنا داخليا؛ وعار عار على الأمة أن يكون فيها مسلم يذبح وآخر يشطح، وليس من اللباقة أنه في الوقت الذي يذبح فيه إخواننا في أرض الشام تكون مسابقات في بلاد الإسلام لاختيار المغنيين والمغنيات!.

 

إن واقعا كهذا ينبئ عن واقع أليم، استبدت فيه الأهواء بالعقول... واختلت فيه الموازين، وأبعد الفاضل، وقدم المردود.

 

اللهم أصلح أحوالنا...

 

 

الأخلاق الإسلامية مع الدفاع عن سيد البرية (1)

 

الأخلاق الإسلامية مع الدفاع عن سيد البرية (2)

 

 

 

المرفقات

الإسلامية مع الدفاع عن سيد البرية (3)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات