الأخلاق الإسلامية مع الدفاع عن سيد البرية (1)

عمر القزابري

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/أهمية الأخلاق في الإسلام 2/أهمية خلق الرحمة وفضلها 3/الرد على من وصف نبي الإسلام بالعنف والإرهاب 4/التحذير من القسوة والغلظة 5/الرحمة بالوالدين 6/الرحمة بالأولاد 7/الرحمة بالنساء8/ رحمة المرضى وذوي الإعاقات 9/رحمة الحيوان والرفق به 10/قسوة الجلاد على أهل الشام والواجب نحوهم 11/أمتنا مرحومة

اقتباس

معاشر الأحباب: لقد أراد الله العلي أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويرثي لخطاياه، ويستميت لهدايته، ويدافع عن الضعيف، ويكسر شوكة الظالم، وينشر الرحمة، فأرسل محمدا -صلى الله عليه وسلم-، وسكب في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الأناة والبر، وفي طبعه من السهولة والرق، وفي يده من السخاوة والندى؛ ما جعله...

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

معاشر الصالحين: الأخلاق هي صورة الالتزام الحق، ودليل الاعتناق الصدق، والتزام بلا خلق هو التزام أجوف لا روح فيه، مبنى بدون معنى، ماء أجاج، وطرق مقفلة بلا فجاج، وانحراف واعوجاج، شجر لا يثمر، وورد لا يزهر، وليل لا يقمر.

 

إن من أعظم مقاصد الدين إبراز مواقع الجمال فيه، وإعزازك لا تلافيك، وكل ذلك فيك، ولا يتم ذلك لك إلا بالتزامك الأخلاق الكريمة، واعتناقها والتعاطي معها على نحو يجلي للناس صورة الدين السمحة، ترسيخا وتركيزا، لا مجرد لمحة.

 

وكنا تكلمنا فيما مضى عن بعض الأخلاق الكريمة، ونواصل اليوم -إن شاء الله- مع خلق عظيم، لا يمنح إلا لسعيد، ولا ينزع إلا من شقي، خلق لطيف جميل حبيب، من تحلى به وضع له القبول بين الناس إنه: "خلق الرحمة".

 

وسأحاول الحديث عن هذا الموضوع بشكل أقرب إلى الخواطر، انطلاقا من الوضع الحاضر الذي تعيشه أمة النبي الزاهر -صلى الله عليه وسلم- مصدرا حديثي بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" [رواه الترمذي وأبو داوود وحسنه الألباني].

 

ففي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنزع الرحمة" دليل على أن الرحمة شيء فطري جبلي مغروس ومركوز بالفطرة، فإذا كان العبد من أهل الشقاء -عياذا بالله - نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت الرحمة من فرد فهو شقي، وإذا نزعت من جماعة فهم أشقياء، وإذا نزعت من أمة فهي أمة شقية -نعوذ بالله-.

 

معاشر الأخوة: نحن نعيش في زمن يصدق فيه:

 

زَمَنٌ بهِ الإسفافُ راجتْ سوقُهُ *** وبُلِي المُقدَّمُ فيه بالمُتأخِّرِ

رُكنا الحضارةِ فيهِ فُحشٌ كامنٌ *** مع لوثةِ الإلحَادِ تحتَ الأسطُرِ

 

لقد تكلم بعض السفهاء مؤخرا منتقصين من قدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبي الرحمة متهمين إياه بالإرهاب، مستدلين على ذلك برسائله -صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك التي كانت تصدر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أسلم تسلم"، معتبرين هذه الجملة عنوان إرهاب، وأنها مخالفة للحريات المتعارف عليها دوليا.

 

ماذا أقول؟!

 

إن البلادة والغباء، والحطة والخسة؛ كلها ألفاظ تتبرأ من هذا الكلام الذي ينطح بعضها بعضا، لا أريد أن اسمي الشخص، فمبغض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يستحق أن يذكر فوق المنابر، ولا يصلح أن تتلطخ بذكره الحناجر.

 

إلا أنني أريد أن أقول لكل طاعن في سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومتهما إياه بالإرهاب سواء كان في بلدنا أو في أي مكان على وجه الأرض، إنها كلمات من علقم وحنظل وجندل، إلى كل ذي ضجيج وشحيج وخوار ونهيق وعجيج، يحاول النيل من مقام النبي الكريم الرحيم، كلمات تقول:

 

تنح اللئيم عن كل شامخٍ *** فإنك لن تسطيع تلك الروابيَ

وإن تسعى تطلب طاهر *** لتدركه لا تفتأ الدهر عانيا

 

لا زلت ترفل في خِزْيٍ وَمَلْأَمَةٍ *** تجر أذيال ذل بين كل الخلائق

 

انبح فليس يضر نبح الكلب نجما *** وليس تخاف من حمر أسود

 

تقاصر فما الشُّمُّ الشواهق كالصُّوا *** ستهوي من علياء نِيقٍ إلى الهُوا

 

لأن متهم رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بالهِجاء حَرٍ خليقُ *** وشيمته المناكر والنهيقُ

 

فهجوك يا متهم رسول الله منشور، ومدحك منطوي.

 

يا ركن القبائح، ومجمع الفضائح، وتمثال اللوم، وكل مذموم

 

يا مجمع العار يا من ذيله قشٌّ لا يتحرش بالنار.

 

ولأرسلنها كلمات نحوك صواعق محرقات، ودواهي مقلقات، تلدغ الأبشار، وتهتك الأستار.

 

فارْتعْ بخزيٍ يادُجَيْجِيلَ المَلا *** ليس النباح ينال من بدر الدجى

تفنى المزاعم والسماء هي السماء.

 

إنه رسول الله، بل خليل الله، وما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

وما يُعلم أن الله أقسم بحياة أحد غيره، الله شرفه وأعلى قدره في العالمين وبجله.

 

لا زال شانيه محشوَّ الحشى كمدا *** والله لا زال عن ما شين يرعاه.

 

فداه أنا وآبائي وأمي *** وقومي والعشيرة والأهالي

 

أتتهم بالإرهاب من قال الله في حقه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].

 

أتتهم من قال الله في حقه: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[التوبة: 128].

 

عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه– قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمي لنا نفسه أسماء، فقال: "أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة " [رواه مسلم].

 

"المقفي" يعني المتبع للأنبياء، "والحاشر" أي الذي يحشر الناس خلفه وعلى ملته دون ملة غيره.

 

معاشر الأحباب: لقد أراد الله العلي أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويرثي لخطاياه، ويستميت لهدايته، ويدافع عن الضعيف، ويكسر شوكة الظالم، وينشر الرحمة، فأرسل محمدا -صلى الله عليه وسلم-، وسكب في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الأناة والبر، وفي طبعه من السهولة والرق، وفي يده من السخاوة والندى؛ ما جعله أزكى عباد الله رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدرا: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ)[آل عمران: 159].

 

وقد لازمته هذه الفضائل العذبة في أعصب الساعات؛ عندما حاول المشركون في أحد اغتياله، وألجئوه إلى حفرة، ونظر صلى الله عليه وسلم إلى زهرة أصحابه، فوجدهم مدرجين بدمائهم على الثرى، ونظر إليه بقية أصحابه، فإذا خده قد شق، وسنه قد سقطت صلى الله عليه وسلم.

 

وفي هذه الظروف قيل له: ادع على المشركين، فغلبه رفقه، وتدفقت رحمته، وجعلت نفسه العالية تستميح لأعدائه العذر، فكان دعائه: "اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون".

 

إن القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة، فهي أبداً إلى الصفح والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والأضغان.

 

إن القسوة في خلق إنسان دليل نقص كبير، وفي تاريخ أمة دليل فساد خطير، فلا عجب إذا حظر الإسلام منها، واعتبرها علة الفسق عن أمر الله، وسر الشرود عن صراطه المستقيم: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].

 

وقد أمر الإسلام بالتراحم، وجعله دليل من دلائل الإيمان الكامل، فالمسلم يلقى الناس قاطبة، وفي قلبه لهم عطف مذخور، وبر مكنون، قال صلى الله عليه وسلم: "لن تؤمنوا حتى ترحموا " قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم، قال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة" [رواه الطبراني].

 

نعم، فإن الرجل قد يهش لأصدقائه حين يلقاهم، وقد يرق لأولاده حين يراهم، بيد أن المفروض في المؤمن أن تكون دائرة رحمته أوسع، فهو يبدي بشاشته، ويظهر مودته ورحمته لعامة من يلقى.

 

إن الرحمة -أيها الكرام- أثر من آثار الجمال الإلهي الباقي في طبائع الناس يحدوهم إلى البر، ويهب عليهم في الأزمات الخانقة نسيما عليلا، يرطب الحياة، وينعش الصدور، قال صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الرحمة مائة جزء وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " [رواه البخاري].

 

وقد نبه الإسلام إلى أن هناك أقواما مخصوصين ينبغي أن يحظوا بأضعاف من الرحمة والرعاية، وأجدر الناس بذلك وأولاهم الوالدين، قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].

 

صورة راقية جميلة معبرة ترحمهما أنت، وتطلب لهما الرحمة، الله -جل جلاله- يأمرك أن تطلب منه أن يرحم والديك.

 

قال بعض أهل العلم: "ما أمرك بطلب الرحمة لهما إلا وهو يريد أن يرحمهما سبحانه".

 

وقد وردت هذه الآية في سورة الإسراء، وهذه السورة تكرر ذكر الرحمة فيها أحد عشر مرة؛ أولها: قوله تعالى: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ)[الإسراء: 8] وآخرها: (قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ) [الإسراء: 110].

 

في إشارة إلى أن رحمة الله تستجلب بطلبها من مصدرها وهو الله، وأولى من تطلب لهما هذه الرحمة "الوالدان": (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 24].

 

من هؤلاء كذلك: ذو الأرحام، والرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، فيجب أن تستقيم معها في معناها، وكذلك الأولاد، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن أو الحسين بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: "إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم" فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من لا يرحم لا يرُحم".

 

وفي رواية: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك" [رواه البخاري].

 

وعن البراء - رضي الله عنه - قال: "أتي أبوبكر - رضي الله عنه - عائشة وقد أصابتها الحمى، فقال: كيف أنتي يا بنية، وقبل خدها" [رواه البخاري].

 

وليس معنى رحمة الأولاد إطلاق العنان لهم في كل ما يريدون ويشتهون، فليست الرحمة حنان لا عقل معه، أو شفقة تتنكر للعدل والنظام، بل هي عاطفة ترع هذه الحقوق جميعا، ولله در القائل:

 

قسى ليزدجر ومن يكو راحما *** فليقسوا أحيانا على من يرحم

 

جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، أمين، أمين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي أنار الوجود بالرحمة المهداة، وواصل إكرامه بالنعمة المسداة؛ سيدنا محمد رسول الله، وجعله للخيرات إماما، ولدخول رحابه بابا، ووفق لمتابعته من أحب إخلاصا وصوابا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا بقربه، وظفروا بحبه، وعلى من سار على النهج، واقتفى الأثر.

 

معاشر الصالحين: وممن تجب الرحمة في حقه النساء، قال صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم".

 

فإكرمهن والتجاوز عن أخطائهن والإحسان إليهن، ومعرفة قدرهن، ومراعاة شعورهن؛ كل ذلك من مظاهر الرحمة التي لا تنزع إلا من شقي.

 

أيها الكرام: إن الإحساس يتبلد في المجتمعات التي تضج بالمرح الدائم، والطرف المتواصل، والمتطرفون إنما يتنكرون لآلام الجماهير؛ لأن الملذات تغلف أفئدتهم، وتطمس بصائرهم، فلا تجعلهم يشعرون بحاجة محتاج، وألم متألم، وحزن محزون.

 

والناس إنما يرزقون الأفئدة النبيلة، والمشاعر المرهفة، عندما يتقلبون في أحوال الحياة المختلفة، ويبلون مس الضراء والسراء عندئذ يحسون بالوحدة مع اليتيم، وبالفقدان مع الثكلى، والتعب مع البائس الفقير.

 

ولذلك لما شكى رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسوة قلبه، قال له: "امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين"[رواه الإمام أحمد].

 

وفي رواية: أن رجلا جاءه يشكو قسوة قلبه، فقال له: "أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك، وتدرك حاجتك" [رواه الطبراني].

 

وتجمل الرحمة -أيها الأحباب- مع المرضى، وذوي العاهات، فإن أولئك المصابين يعانون ويكتوون، ويحتاجون إلى عناية ورعاية، وشفقة ورحمة، فالمريض شخص قيدته العلة، ونغصه حر الداء، ومر الدواء، وهو في صبره على أوجاعه وآلامه قريب من الله؛ حري برحمته، وإذا كان مس الشوكة يكفر من سيئات المؤمن، فما بالكم بمن برحت به الأوصاب، وأذاقته العذاب.

 

لذلك يجب أن نحاذر من الإساءة إلى المرضى، والاستهانة براحتهم، وابتزازهم واستغلالهم، فإن ذلك جرم عظيم.

 

ومن الرحمة المطلوبة: الرفق، فإن الإسلام شديد المؤاخذة لمن تقسو قلوبهم على الحيوان، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الإنسان على عظيم قدره يدخل النار في إساءة يرتكبها مع دابة عجماء، قال صلى الله عليه وسلم: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض" [رواه البخاري].

 

كما بين صلى الله عليه وسلم أن كبائر المعاصي تمحوها نزعة رحمة، تغمر القلب ولو بإيذاء كلب، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: "أن امرأة بغية من بغايا بني إسرائيل رأت كلبا في يوم حار، يطوف ببئر، قد أدلع لسانه من شدة العطش، فنزعت مُوقَهَا -أي خفها- فاستقت له به، فغفر له به" [رواه البخاري وسلم].

 

لئن كانت الرحمة بكلب تمحو ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب، وتصرف الرزايا.

 

أيها الأحباب الكرام: ونحن نتحدث عن الرحمة لا يمكننا أبدا أن نغض الطرف، أو نضرب الذكر صفحا عما يحدث لإخواننا في الشام من مجازر ومذابح في مشهد من مشاهد القسوة التي ستبقى وسمة عار في جبين هذا العصر، الذي يتفرج ولا يفرج، ويخذل ولا يبذل، ويندد ولا ينفذ.

 

أمة الإسلام:

إن الشام قد رفعت من لوعة القهر نِداها *** والنفوس الشُّمّ قد فاض أساها

 

الشام تستصرخ وتستنصر، وبأخوة الدين تستنجد.

 

يستغيث شيخ، وتندب ثَكلى، ويئن طفل، ويندى الجبينُ

 

مئات الآلاف من الأسر لا عائلة ولا مال، عائلهم في الأموات، أو في السجون والمعتقلات.

 

كم ألوف جُرعوا كأس الردى *** بيد الأوغاد أشرار البرية

وبيوت أُخمدت أنفاسها **** بيد الإجرام يا هول البلية

يا لها مجزرة قد صعقت *** كل راءٍ بعيون آدمية

كم رضيع حرموه أمه *** وسقوْها حسرة طال مداها

أواه في أذني صوت اليتيم بكى *** وصوت أرملة تستنفر العربَا

تدعوا وفي قلبها نار مؤججةٌ *** ودمعها لغة تستهجن الخطبا

من حولها صِبية يبكون ما وجدوا *** مأوى وما وجدوا من يدفع السغبا

أواه والنار في الفيحاء موقدة ** أجساد إخواننا صارت لها حطبا

 

(ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ)[محمد: 4].

 

واجب الوقت، وفريضة الزمان؛ نصرة أهل الشام، ابذلوا الدرهم والدينار والقنطار، وارفعوا الأكف بالليل للجبار، ابسطوها لهم بالنهار، لا تتركوهم ولا تخذلوهم، ولا تحوجهم لغريب لئيم، يعطي القليل ويساوم على الكثير.

 

فمن ينتظر من عصبة الكفر نخوة *** فعائده المنظور صَابٌ وعلقمُ

 

أقصى مروءتهم ونجدتهم لنا *** وفد يجيئ ومستشار يذهبُ

خاب من يسألهم نصرته *** إنما يحمي حمانا ضَيْغَمه

 

ويا أهلنا في الشام: لكم الله، وإن النصر آت، وبقاء الظالم شيء مستحيل.

 

عاشق الموت في الميادين يظفر *** وعروس الفردوس بالدم تُمْهر

عقبى الثبات انتصار لا نشك به *** وعد من الله لا طيف من الحلمِ

يا شام يحميك الإله بجنده *** يحميك ربي أن يذلك قِرْقِسُ

والكل دون الله مثل بعوضة *** وهو القوي القاهر المتكبر

 

ما يزال ربيب المجوس سائرا في غيه، يسفك دماء شعبه، ويؤز نفسه أزا نحو مصيره الذي ينتظره، وهو عنه عمى، وله يوم لا تطلع عليه شمس وإن غدا لناظره لقريب.

 

فعرشٌ صِيغَ من ظلم وهضمٍ *** فعقباه وربي لنهدادِ

 

ومن يشرب دم الأحرار يبقى *** على مَرّ الزمان به عليلا

 

وفي معمعةِ هذه الأحداث تنادت فلول ابن سبإ وابن سلول

وقد فزعوا زُمرا يُهرعون، يخورون كالبقرِ الهُمَّلِ

ويسعون في محاولة تعكير المياه الصعبَ والذَّلول

ليحولوا دون أن تُحكم الناس بهدي الله والرسول

 

كل ذلك في معركة تمايزت فيها الرايات، واتضحت الغايات، ودأب تحالف الباطل في الاصطفاف والتفنن في المكر والكيل في محاولة يائسة لإطفاء ذلك النور، وهيهات هيهات.

 

وقبل وفي وبعد هذه الأحداث لابد أن تعلم الأمة: أنه والذي رفع السبع، وفجَر النبع، لن تُضمد الجراح، ويتم الإصلاح، وننال الفلاح حتى نحكم حياتنا بهُدى وأخلاق القرآن.

 

إخوة الإيمان: إن ما يحدث في الشام أمر غريب مريب، صمت عالمي عجيب، وتخاذل عربي أعجب، إنها الشام أرض البركات والخيرات، أرض الملاحم والمكارم، دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهلها، وأخبر أن فسطاط الإيمان في آخر الزمان يكون بها، وقال فداه نفسي وأبي وأمي: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم".

 

إن الرحمة التي جبل الله عليها عباده، إن الرحمة التي جاء بها سيدنا رسول الله كل ذلك يقتضي وقفة حازمة من عالم اليوم، ومن كل الذين مكنهم الله من أمور المسلمين، وأعطاهم وسائل الضغط أن يتحركوا لرفع معاناة أهل الشام؛ لأن دماء الأطفال، وأنات الثكالى، ودعوات المظلومين؛ لن تمر هباءا، وربما يصطلي الجميع بنارها، إلا عندما تتضافر الجهود لرفع المحنة، ومع ذلك فلا يأس.

 

أمتنا أمة مرحومة منصورة، وعد الله لها لا يخلف: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].

 

ومشروطه لا يتخلف: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)[محمد: 7].

 

وفي قلوبنا وعد الله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5- 6].

 

 

ولن يغلب عسر يسرين، والمظلوم منصور، والظالم مدحورا مقهور، وأمر الله نافذ: (وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [البقرة: 117].

 

اللهم ردنا إليك ردا جميلا..

 

اللهم...

 

 

الأخلاق الإسلامية مع الدفاع عن سيد البرية (2)

 

الأخلاق الإسلامية مع الدفاع عن سيد البرية (3)

 

 

 

المرفقات

الإسلامية مع الدفاع عن سيد البرية (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات