عناصر الخطبة
1/ محاولات السفهاء للتطاول على المبعوث رحمة للعالمين 2/ رفع الله لذكر نبيه وربط النجاة باتباعه 3/ وجوب توقيره كأنه حاضر 4/ نماذج تبين امتلاء الكون بشرا وجمادا بمحبته 5/ التشرف بالدفاع عنه 6/ الرد العملي على المتطاولين بالتعريف به وبسيرتهاقتباس
إنّ من حُجِب عن معرفة ربِّه ونوره يحجب عن معرفة رسوله الذي أرسله الله سراجا منيرا، وكيف يبلغ في الدنيا غايته من تستوي عنده الظلماء والنور؟ فسبحان من رفع قدره وأعلى مقامه. وحقيقةً: لستُ أدري ما الذي أصاب هؤلاء القوم: أهُو السعار؟ أم هو الكلف؟ أم هو الحقد وإشعال اللهب؟ لقد أُمِرنا بالأدب مع كافة الناس، فما بالكم بسيد الناس؟! كيف يجرؤ هذا النكرة أن يقول دون خجل ودون حياء إن محمداً -صلى الله عليه وسلم- كانت له أخطاء بشرية كثيرة!.
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمـــُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: لا تزال في الحلق غُصّة، وفي القلب حسرة، وفي الجوارح ألم، مما تفوّه به بعض اللئام ممن يشربون النجيع، ويسبحون في الرجيع، مما تفوهوا به في حق النبي الشفيع، سيدنا وقدوتنا وإمامنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فلم تكد تمر مصيبة اتهامه -صلى الله عليه وسلم- بالإرهاب إفكا وزورا وغباء وخسة وضيعة وحطة، حتى جاء آخر يُنْسَب إلى الفكر وإلى العلم ليقول بلسان وقح: إن الرسول وقع في أخطاء بشرية كثيرة!.
وهذا المذكور كانت له سابقة في اتهام سيدنا أبي هريرة -رضي الله عنه- بالكذب؛ بل إنه ذهب في كتاب له أسماه "أكثر أبو هريرة" إلى أن شخصية أبي هريرة لا وجود لها في الواقع، إنما هي شخصية وهمية.
هؤلاء المفاليس المناكيب كان يمكن أن نتفاداهم وألّا نرد عليهم؛ لأنهم حقيقة لا يستحقون الرد؛ أخذا بقول الشاعر:
وَمَنْ يَرْمِ الذُّبَابَ بمنجنيقٍ *** سيخسرُ سَهْمَهُ وقتَ النِّضَالِ
ولكن؛ لا نستطيع أبدا، لأن المتطاول عليه هنا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن يتطاول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علنا وفي المنابر إعلاميا لا يمكن أن يكون الرد عليه إلا على المنابر المحمدية.
وما نحن إلا سهام مرسلة على من يؤذي الذي كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وإن لم ندافع عن مقام رسولنا فلا خير فينا ولا في حياتنا ولا في ذهابنا وإيابنا، وأيامنا هباء، وسعاتنا خواء.
ففي معركة أُحد، عندما تطاول المشركون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وقد أووا إلى الجبل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه منبها ومتعجبا: "ألا تجيبون؟! ألا تجيبون؟!"، نعم! نجيب يا رسول الله! وفداك أرواحنا وأبناؤنا وأهلنا، وفداك الدنيا كلها، نجيب ولو قطعت الأعناق، نجيب عنه -صلى الله عليه وسلم- وفي أسماعنا قول حسان -رضي الله عنه-:
هَجَوْتَ مُحَمَّدَاً فأجَبْتُ عنْهُ *** وعنْدَ اللهِ فِي ذاك الجزاءُ
هَجَوْتَ مُبَارَكَاً بَرّاً حَنِيفَاً *** رسول الله شيمتُه الوفاء
أَتَهْجُوهُ ولستَ لهُ بِكُفْءٍ *** فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُمَا الفِداء
فإنَّ أبي ووالِدَتِي وعِرْضِي *** لِعِرْضِ محمَّدٍ منكم وقاء
وقال الآخر:
عِرضي فِدَا عرضِ الحبيبِ مُحَمَّدٍ *** وفداه مُهْجَة خافقي وجَنَاني
وفداهُ كُلُّ صغيرِنا و كبيرِنا *** وفداهُ ما نَظَرَتْ له العينانِ
وحقيقةً: لستُ أدري ما الذي أصاب هؤلاء القوم: أهُو السعار؟ أم هو الكلف؟ أم هو الحقد وإشعال اللهب؟ لقد أُمِرنا بالأدب مع كافة الناس، فما بالكم بسيد الناس؟! كيف يجرؤ هذا النكرة أن يقول دون خجل ودون حياء إن محمداً -صلى الله عليه وسلم- كانت له أخطاء بشرية كثيرة!.
ما المراد من هذا الكلام؟ ولماذا هذا التوقيت؟ أَلَا أخرس الله ألسنة لا تتأدب مع رسول الله! ومسخ وجوهاً لا تعرف قدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك لا مَفَرّ حاصل وواقع، لا يتجرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إِلّا مَن مسخ الله منه الظاهر والباطن، والواقع خير شاهد، فلا يتجرأ على المصطفى إلا ممسوخ.
لقد أمرنا في القرآن الكريم بتعظيم وتوقير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول ربنا: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح:8-9].
قال الإمام أبو بكر الحداد في تفسيره المسمى "كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل": "وتعزّروه: راجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: تُعينوه وتنصروه بالسيف واللسان، وتوقّروه، أي: وتُعَظِّمُوه وتبجِّلُوهُ".
أيها الأماجد: إنّ من حُجِب عن معرفة ربِّه ونوره يحجب عن معرفة رسوله الذي أرسله الله سراجا منيرا، وكيف يبلغ في الدنيا غايته من تستوي عنده الظلماء والنور؟ فسبحان من رفع قدره وأعلى مقامه فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
هو رحمة للإنسان؛ إذ علمه الرحمن، وسكب في قلبه نور الإيمان، ودله على طريق الجنان.
هو رحمةٌ للشيخ الكبير؛ إذ سهّل له العبادة، وأرشده لحسن الخاتمة، وأيقظه لتدارك العمر لاغتنام بقية الأيام.
هو رحمة للشاب؛ إذ هداه إلى أجملِ أعمال الفتوة، وأكمل خصال الشباب، فوجه طاقته للبناء والإنشاء، وأرشده إلى منابع العفة والحياء.
هو رحمة للطفل؛ إذ سقاه مع لبن أمه دين الفطرة، وأسمعه ساعة مولده أذان التوحيد، وألبسه في عهد الطفولة حلة الإيمان.
هو رحمة للمرأة؛ إذ أنصفها في عالم الظلم، وحفظ حقها في دنيا الجور، وصان جانبها في لغط الحياة، وحفظ لها عفافها وشرفها ومستقبلها.
وهو رحمة للولاة والحكام؛ إذ وضع لهم ميزان العدالة، وحذّرهم من متالف الجور والتعسف، وحد لهم حدود التبجيل والاحترام والطاعة في طاعة الله ورسوله.
وهو رحمة للرعية؛ إذ وقف مدافعاً عن حقوقها، محرما الحيف، ناهيا عن السلب والنهب والسفك والابتزاز والاضطهاد والاستبداد.
وهو رحمة للخلائق يوم الموقف العظيم حين يطول الموقف بالخلائق، وقد أهلكهم العرق، حتى أشرفوا فيه على الغرق، وأحاط بهم القلق، وتملكهم الفرق، وللنار زفير، فيأتون الأنبياء متشفعين بهم لبدء الحساب.
حتى إذا اعتذر كل نبي عن ذلك المقام جاؤوا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهم بلسان الواثق من علو المكانة ورفيع القدر والمكان: "أنا لها! أنا لها!" فكيف بعد ذلك يأتي الأقزام ليحاولوا النيل من سيد الأنام؟! ألا قبح الله اللئام!.
هؤلاء اللاشيء وغيرهم ممن يحاول الانتقاص من المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مصيرهم بلا شك إلى مزابل التاريخ.
أما المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فإن الله قد قال له: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح:4]. فلْيَمُتْ حاسد، وليشرق بريقه مغتر.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، فما نُسي مع الأيام، وما مُحي مع الأعوام، وما شُطب من قائمة الخلود، وما نُسخ من ديوان التاريخ، وما أغفل من دفتر الوجود؛ نُسي الناس إلا هو -صلى الله عليه وسلم-، وسقطت الأسماء إلا اسمه، وأُغْفِل العظماء إلا ذاته، فمن ارتفع ذكره من العباد فبسبب اتّباعه، ومن حُفظ اسمه فبسبب الاقتداء به.
ذهبت آثار الدول وبقيت آثاره، ومُحيت مآثر السلاطين وبقيت مآثره، وزالت أمجاد الملوك وخُلّد مجده، فليس في البشر أشرح منه صدرا، ولا أرفع منه ذكرا، ولا أعظم منه قدرا، ولا أحسن منه أثرا، ولا أجمل منه سيرة، إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أيُّها الْمُحِبُّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اسلك معه حيثما سلك، فإن سنته سفينة نوح، مَن ركب فيها نجا، ومن تخلّف عنها هلك، نزل بزُّ رسالته في غار حراء، وبيع في المدينة، وفصل في بدر، فلبسه كل مؤمن؛ فيا سعادة مَن لبس! ويا خسارة من خلعه! قد تعس وانتكس.
إذا لم يكن الماء من نهر رسالته فلا تشرب، وإذا لم يكن الفرس مسوَّماً على علامته فلا تركب، بلال بن رباح صار باتباعه سيداً بلا نسب، وماجداً بلا حسب، وغنيّاً بلا فضة ولا ذهب؛ أبو لهبٍ عمُّه لما عصاه خسر وتبّ، سيصلى ناراً ذات لهب.
يقول الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- في كتابه "هكذا علمتني الحياة": أيها الأخ المسلم ،كن مثل محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ما استطعت تلحق به في ركب الخالدين، كن صورة موجزة عنه، فمثل محمد تماما ما كان ولن يكون في التاريخ؛ لأن إرادة الله اقتضت أن تكون للإنسانية شمس واحده تطلع كل يوم. اهـ.
إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله له: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الشورى:52]، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
نعم؛ إنه لَعَلَى منهجٍ قويمٍ، ما ضلَّ، وما زلَّ، وما ذلَّ، وما غلَّ، وما ملَّ، وما كلَّ، فما ضلَّ؛ لأن الله هاديه، وجبريل يكلمه ويناديه، وما زلّ؛ لأن العصمة ترعاه، والله أيده وهداه، وما ذلّ؛ لأن النصر حليفه، والفوز رديفه، وما غلّ؛ لأنه صاحب أمانة، وصيانة، وديانة، وما ملّ؛ لأنه أُعطي الصبر، وشُرح له الصدر، وما كلّ؛ لأن له عزيمة، وهمة كريمة، ونفساً طاهرة مستقيمة.
كَأنَّكَ في الكتابِ وجدتَّ لاءً *** مُحَرَّمَة عليــك فلا تحلُّ
إذا حضر الشتاءُ فأنت شمسٌ *** وإنْ حَلَّ المصيفُ فأنت ظلّ
أيها الكرام: إن الذب عن عرض المسلم من أعظم القربات، وأجل الطاعات، لقول سيد البريات: "مَن رَدَّ عن عِرض أخيه رد الله النار عن وجهه يوم القيامة"، فكيف يكون الذب والردُّ عن عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ إنه -والله!- الشرف العظيم.
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّرَ فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، رفع قدره، ووعد شانئه بالبتر والعذاب الأليم فقال: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر:3] وقال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:61]، نحمده على ما مَنّ به علينا من نعمة بعثته، وجعلنا من أمته صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الغُرِّ الميامين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: يقول الإمام القاضي عياض -رحمه الله-: "واعلم أنَّ حرمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازِمٌ كما كان حال حياته عند ذكره -صلى الله عليه وسلم-، وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته، ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته".
وقال أبو إبراهيم التجيبي: "واجبٌ على كُلِّ مؤمن متى ذكره، أو ذُكر عنده، أن يخضع، ويخشع، ويتوقر، ويسكن من حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به".
قال القاضي عياض -رحمه الله- معلقا على كلام أبي إبراهيم: "وهذه كانت سيرةُ سلفِنا الصالح، وأئمتنا الماضين".
قال ابن حميد -رحمه الله-: "ناظر أبو جعفر المنصور الإمام مالك في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد؛ فإن الله تعالى أدب قوما فقال: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات:2]، ومدح قوما فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات:3]، وذم قوما فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [الحجرات:4]، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر"؛ يعني خضع وخشع لمقالة الإمام مالك -رحمه الله-.
وسئل الإمام مالك مرة عن أيوب السختياني، وهو من أكابر السلف، أي: سئل عن مقامه ومرتبته، قال الإمام مالك: "ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحجَّ حجتين، فكنت أرمقه ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله للنبي -صلى الله عليه وسلم- كتبت عنه".
وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يتغير لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك –أي: في تهوين الأمر عليه-، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء، لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه.
ولقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق، وكان كثير الدعابة والتبسّم، فإذا ذكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- اصفر، وما رأيته يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة.
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم، وهو من أحفاد أبي بكر -رضي الله عنه- يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه؛ هيبة منه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
ولقد رأيت الزهري، وكان من أهنأ الناس، وأقربهم؛ فإذا ذكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- فكأنه ما عرفك، ولا عرفته.
ولقد كنت آتي صفوان بن سليم، وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه، ويتركوه، وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه الزويل، والزويل والعويل: هو صوت الصدر بالبكاء، والزويل هو القلق وعدم الاستقرار، يقال: زال عن مكانه يزول زوالا وزويلا.
وقال مالكٌ: "إنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، فَجَلَسَ فَحَدَّثَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَدِدْتُ أَنَّكَ لَمْ تَتَعَنَّ -أي: تتعب نفسك- فَقَالَ: إنْي كرهتُ أن أُحَدِّثَكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَنَا مُضْطَجِعٌ".
قال مطرف -رحمه الله-: "كان إذا أتى الناس مالكا خرجت إليهم الجارية فتقول لهم: يقول الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم، وإن قالوا الحديث دخل مغتسله واغتسل وتطيب ولبس ثياباً جدداً، و لبس وتعمّم، و وضع على رأسه رداءه، وتلقى له منصة، فيخرج فيجلس عليها، و عليه الخشوع، و لا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال ابن أبي أويس: فقيل لمالك في ذلك؛ أي: سئل عن فعله، فقال: "أحب أن أعظم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أحدث به إلا عن طهارة متمكناً".
قال عبد الله بن المبارك: "كنت عند مالك وهو يحدثنا، فلدغته عقرب ست عشرة مرةً، وهو يتغير لونه ويصفر ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من المجلس، وتفرق الناس عنه، قلت له: يا أبا عبد الله، لقد رأيت اليوم منك عجباً! قال: نعم، لدَغَتْنِي عقربٌ سِتَّ عشرةَ مرَّةً، وأنا صابرٌ في جميع ذلك، و إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال ابن مهدي: مشيت يوما مع مالك إلى العقيق، فسألته عن حديث، فانتهرني، وقال لي: كنت في عيني أجل من أن تسأل عن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نمشي.
وهذه امرأة تسأل عائشة -رضي الله عنها- بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بمدة وتطلب منها بإلحاح أن تريها قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأت القبر بكت واشتد بكاؤها وخرت ميتة.
لَئِنْ كان النساءُ كما ذَكَرْنَا *** لَفُضِّلَتِ النساءُ على الرجالِ
فما التأنيثُ لاسمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ *** ولا التذكيرُ فخرٌ للهلال
هكذا كان الأسلاف الكرام، وهكذا كل مسلم صادق يعظم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويوقره ويجله، عاشوا رحمهم الله على هذه المعاني؛ لأن فطرتهم سليمةٌ، لأن تربيتهم كريمة.
ومع الأسف، جاء هذا الزمن فتسربت اللوثات الفكرية إلى كثير من أبناء المسلمين وظنوا أنهم على شيء، وهم أقل وأتفه من لا شيء، فتخطوا الحدود، وجاوزوا الخطوط الحمراء تحت دعاوى حُرية الفكر وحرية التعبير.
فبدأ بعضهم بالخوض في عرض المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ورد الأحاديث، ووصفه بالإرهاب تارة، ووصف أتباعه بالرجعية تارة أخرى، ثم محاولة إسقاط هيبته وقدسيته من قلوب الناس، عبر التحدث عنه بجفاء وقلة أدب، والقول بكل صلف وبكل خسة وقلة أدب، كما قال هذا السفيه بأنه -صلى الله عليه وسلم- كانت له أخطاء بشرية كثيرة! (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف:5].
وصدق الشاعر يوم يقول:
خفافيشُ أعشاها النّهارُ بِضَوْئِهِ *** ووافقَهَا قِطْعٌ مِن الليلِ مُظْلِم
قولهم ظُلمة، وعملهم ظلمة، ومدخلهم ظلمة، ومخرجهم ظلمة، ومصيرهم ظلمة؛ قلوبهم مظلمة، ووجوههم مظلمة؛ كلامهم مظلم، وحالهم مظلم، عياذا بالله الواحد الأحد.
يتطاولون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والجِزع حنّ إليه، والصخر سلم عليه، والحيوانات سجدت بين يديه.
عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لَأَعْرِفُ حَجَرَاً بمكة كان يسلِّم عليّ قبل أن أبعث" رواه أحمد ومسلم والترمذي.
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان المسجد مسقوفا على جذوعٍ من نخل، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صُنع له المنبر وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العِشار، حتى جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده عليها فسكن" رواه البخاري، وقال في رواية أخرى: "لو لم أحتضنه لَحَنَّ إلى يوم القيامة".
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَحْشٌ، فَإِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَعِبَ وَاشْتَدَّ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ دَخَلَ رَبَضَ فَلَمْ يَتَرَمْرَمْ مَا دَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْبَيْتِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ" أخرجه الإمام أحمد.
إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إمامنا وحبيبنا وسيدنا وقدوتنا وشفيعنا إلى ربنا، به أنقذنا الله من النار، به أخرجنا الله من ظلمات الوهم إلى أنوار الفهم، ففداه أنفسنا وأهلونا وأولادنا وآباؤنا وأمهاتنا، وفداه الدنيا كلها، فإذا تكلم غر جاهل أو حاقد مجادل فليكن ردنا زيادة معرفة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
اعرفوا سيرته العطرة، علموها أولادكم وأحبابكم ومن إليكم، فتلكم سبيل السعادة وطريق الحسنة والزيادة.
أما شانئوه ومبغضوه والمتطاولون عليه فسياط القدر لهم بالمرصاد، ومزابل التاريخ تنادي: هل من مزيد! ورسولنا مع النداء العلوي الخالد: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64].
اللهم أصلح أحوالنا...
الأخلاق الإسلامية مع الدفاع عن سيد البرية (1)
الأخلاق الإسلامية مع الدفاع عن سيد البرية (3)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم