اقتباس
ولكن هناك احتفال جائز ومشروع، بل هو مستحب وواجب وفريضة؛ ذاك أن نحتفل بالنبي -صلى الله عليه وسلـم- بحبه، وباتباع هديه، وبالمحافظة على الدين الذي جاء به، وبإقامته واقعًا ملموسًا مطبقًا على هذه الأرض... بشرط: ألا يكون هذا الاحتفال يومًا واحدًا في السنة، بل يكون دائمًا أبدًا في كل لحظة وخطرة ونومة وقومة... فهذا هو الاحتفال الحق لمن أراد أن يحتفل...
ولد الهدى فالكائنات ضياء *** وفم الزمان تبسم وثناء
الروح والملأ الملائك حوله *** للدين والدنيا به بُشراء
والعرش يزهو والحظيرة تزدهي *** والمنتهى والسدرة العصماء
والوحي يقطر سلسلًا من سلسل *** والوحي والقلم البديع رواء
يا خير من جاء الوجود تحية *** من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا
بك بشر الله السما فزينت *** وتضوعت مسكا بك الغبراء
صلى عليك الله وسلم يا رسول الله، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، كان ميلادك نعمة، ومبعثك نعمة، وهجرتك نعمة، كانت حياتك نعمة وأنت في الآخرة علينا نعمة، كلامك نعمة وسكوتك نعمة...
لقد كان الكون ظلامًا إلى أضاءه نورك يا رسول الله... وكان الناس ضُلَّالًا إلى أن هداهم ما أتيت به من الهدى يا رسول الله... كانوا يسجدون لصنم ويعبدون نارًا وشمسًا وقمرًا... فلما قرب ميلادك بدأت الأرض تستعد لاستقبالك؛ فها هي نار المجوس تنطفأ وها هو إيوان كسرى يتصدع وها هي بحيرة طبرية يغيض ماؤها... ولقد سأل أبو أمامة رسول الله -صلى اللـه عليه وسلم- فقال: يا نبي الله، ما كان أول بدء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام"(رواه أحمد).
وهذا حسان بن ثابت يقول: "والله إني لغلام يفعة ابن سبع أو ثمان سنين أعقل ما سمعت، إذ سمعت يهوديًا وهو على أطمة يثرب يصرخ: يا معشر اليهود، فلما اجتمعوا قالوا: ويلك ما لك؟ فقال: قد طلع نجم الذي يبعث الليلة"(رواه الحاكم).
ذعـرت عروش الظالمين فزلزلت *** وعـلـت عـلـى تيجانهم أصداء
والـنـار خـاوية الجوانب حولهم *** خمدت ذوائبها وغاض الماء
والآي تتـرى والـخوارق جمة *** جـبـريـل رواح بهـا غداء
كل هذا وغيره كثير قد حصل ووقع إرهاصًا واستعدادًا من الكون كله لقدومك ومولدك، ولكن متى كان مولده -صلى اللـه عليه وسلم-؟ نعم، ما هو تاريخ ميلاده -صلى اللـه عليه وسلم-؟
يجيب ابن القيم فيقول: "لا خلاف أنه ولد -صلى الله عليه وسلم- بجوف مكة، وأن مولده كان عام الفيل"(زاد المعاد لابن القيم)، وهو يوافق سنة 570 أو 571 بالتقويم الميلادي، وهكذا نكون قد علمنا سنة الميلاد بالتحديد.
وأما يوم الميلاد النبوي فهو يوم الاثنين بلا خلاف؛ وذلك لما رواه أبو قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم يوم الاثنين؟ قال: "ذاك يوم ولدت فيه..."(مسلم).
وأما شهر الميلاد: فقد قال الجمهور أنه -صلى الله عليه وسلـم- ولد في شهر ربيع الأول، ثم اختلفوا في تحديد أي يوم من ربيع الأول، فقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لثمان خلون منه، وقيل: لعشر خلون منه، وقيل : لثنتى عشرة خلت منه... وهذا الأخير هو رأي أغلب العلماء؛ أنه -صلى الله عليه وسلـم- ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول.... ومن علماء الفلك المعاصرين من خرج مؤكدًا أن يوم الميلاد النبوي هو التاسع من شهر ربيع الأول.
وقال بعض العلماء أنه -صلى الله عليه وسلـم- ولد في رمضان ، وقال غيرهم بل كان مولده -صلـى الله عليه وسلم- في صفر، إلى غير ذلك من أقوال.
والسؤال الأهم الآن: ترى لو علمنا على وجه اليقين وثبت عندنا بالتحديد يوم مولده -صلى الله عليه وسلم- وساعته، فماذا نفعل في يوم المولد؟ أيجوز الاحتفال فيه؟
ولنقرأ الجواب على لسان العالم المالكي الشهير ابن الحاج (المتوفى: 737هـ) الذي يقول: "فانظر -رحمنا الله وإياك- إلى مخالفة السنة ما أشنعها وما أقبحها وكيف تجر إلى المحرمات؛ ألا ترى أنهم خالفوا السنة المطهرة وفعلوا المولد..."(المدخل لابن الحاج).
ويجيب ابن باز -رحمه الله- الذي يقول: "الاحتفال بالمولد النبوي غير مشروع بل هو بدعة لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه".
ويجيب ابن عثيمين: "إنَ هذا الاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله الصحابة -رضي الله عنهم-، ولا التَّابعون لهم بإحسان، ولا تابعو التابعين؛ وإنَّما حَدَثَ في القرن الرابع الهجري؛ فأين سلف الأمة عن هذا الأمر الذي يراه فاعلوه من دين الله؟ هل هم أقل محبة وتعظيمًا لرسول الله؟".
ويجيب ناصر الدين الألباني فيقول: "هذا إمام دار الهجرة يقول بلسان عربي مبين: "فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا"، اليوم الاحتفال بالمولد النبوي دين، ولولا ذلك ما قامت هذه الخصومة بين علماء يتمسكون بالسنة وعلماء يدافعون عن البدعة، كيف يكون هذا من الدين ولم يكن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين، ولا في عهد أتباع التابعين؟!".
ويجيب البشير الإبراهيمي فيقول: "الحب الصحيح لمحمد -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يدع صاحبه عن البدع ويحمله على الاقتداء الصحيح، كما كان السلف يحبونه فيحبون سنته ويذودون عن شريعته ودينه من غير أن يقيموا له الموالد وينفقوا منها الأموال الطائلة التي تفتقر المصالح العامة إلى القليل منها فلا تجده".
وبعد هذه الأقوال والفتاوى لك أنت تسأل عن الدليل؛ دليل بدعية الاحتفال بالمولد النبوي؟ نقول: الأدلة كثيرة منها ما يلي: الدليل الأول: عدم الدليل؛ فإنه لم يثبت بدليل عن القرون الأولى أنهم احتفلوا بالمولد النبوي، وهو يوم لم تعظمه الشريعة الإسلامية ولم تخصه بعمل زائد، يقول ابن تيمية: "... مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف -رضي الله عنهم- أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص"(اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية).
الدليل الثاني: أن يوم المولد النبوي هو نفس يوم الوفاة على الراجح من أقوال العلماء، فهل نحتفل بالمولد أم نرثي لموته -صلى الله عليه وسلـم-؟!
الدليل الثالث: أننا إذا حكمنا إنما نحكم على واقع محسوس نراه ونسمعه، وما يحدث في الموالد من اختلاط وبدع ومخالفات ومبالغات... لا يقره عقل ولا دين، ولا يختلف أحد على حرمته... ثم الأدلة بعد ذلك كثيرة.
لكن هناك احتفال جائز ومشروع بالنبي -صلى الله عليه وسلـم- بل هو مستحب وواجب وفريضة؛ ذاك أن نحتفل بالنبي -صلى الله عليه وسلـم- بحبه، وباتباع هديه، وبالمحافظة على الدين الذي جاء به، وبإقامته واقعًا ملموسًا مطبقًا على الأرض... بشرط: ألا يكون هذا الاحتفال يومًا واحدًا في السنة، بل يكون دائمًا أبدًا في كل لحظة وخطرة ونومة وقومة... فهذا هو الاحتفال الحق لمن أراد أن يحتفل.
هذا، وإني ما فعلت الآن شيئًا إلا أن مهدت للأمر وقدَّمت له وافتتحت الكلام فيه، وأدع الآن المجال لخطبائنا يزيدونك تفصيلًا وتوضيحًا وتجلية للأمر من بداياته، فإليك بعض خطبهم:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم