اقتباس
فأهم من الاستقامة: الثبات عليها حتى الممات... أما سألت نفسك يومًا لِما كان: "من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم"؟! ولِما كان من لم "يعرف حق كبيرنا فليس منا"؟! ولِما كان: "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة"... أجيب: إن الأسباب كثيرة، لكنني...
معلومات قلائل تلك التي نعرفها عن ذلك الصحابي الجليل: سفيان بن عبد الله الثقفي، الأولى: أنه من الطائف، والثانية: أنه جاء في وفد قومه الذين قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- ليبايعوه، وثالثًا: أنه كان يجمع صدقات قومه من الماشية والعسل... ويأتي بها إلى المدينة حتى زمان عمر بن الخطاب، والرابعة: ما رواه بشر بن عاصم بن سفيان عن أبيه، قال: "إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- استعمل أباه؛ سفيان بن عبد الله الثقفي على الطائف" (أخبار مكة للفاكهي).
والمعلومة الخامسة -وهي أهمها بالنسبة لموضوعنا-: أنه كان يحب المختصَرات الموجَزات؛ ذلك أنني بعد بحث طويل في العديد من كتب الحديث لم أجده قد روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- إلا حدثين اثنين، أما الأول منهما فما رواه الطبراني وغيره عن سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال: قلت لنبي الله -صلى الله عليه وسلم-: يا نبي الله، قل لي قولًا أنتفع به وأقلل لعلي أعقله؟ فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تغضب" فعاوده مرارًا يسأله عن ذلك، يقول نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تغضب" (المعجم الكبير للطبراني). أما الحديث الثاني، وهو أساس وأصل حديثنا اليوم- فيقول فيه سفيان بن عبد الله الثقفي: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك -وفي رواية: غيرك- قال: "قل: آمنت بالله، فاستقم" (مسلم)، وعند ابن ماجه وغيره: أن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: "قل: ربي الله، ثم استقم"... ولفظ هذه الرواية الأخيرة متطابقة تمامًا مع قول الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)، وإن سألت: وما تمام الآية؟ أجبتك: إنها الجائزة الكبرى لمن آمن واستقام على منهج الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت: 30-31]، فالملائكة تتنزل عليهم من السماء -هذه الفضيلة الأولى، ولِما تتنزل؟ لتطمئن قلوبهم -وهذه الثانية-، وتبشرهم بالجنة، قال زيد بن أسلم: "يبشرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث" (تفسير ابن كثير)... وهذه الثالثة. أما الفضيلة الرابعة للمستقيمين على دين الله -تعالى- فنعرفها من الآية الثانية التي تقول: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن: 16]، "والمعنى: لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا ولأعطيناهم ماء كثيرًا وعيشًا رغدًا، وإنما ذكر الماء الغدق مثلًا لأن الخير والرزق كله أصله من المطر" (تفسير الخازن)... ثم الفضائل بعد ذلك كثيرة لا تنقطع.
لكننا -وقد عرفنا بعض فضائل الاستقامة- لم نتطرق بعدُ لمعناها... فما هي الاستقامة؟ دعونا نقرر فنقول: إن الاستقامة هي: عدم الانحراف عن الطريق المستقيم، سئل عنها أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- فأجاب: "أن لا تشرك بالله شيئًا". أما عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- فقال: "الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب". وقال عثمان -رضي الله تعالى عنه-: "استقاموا: أخلصوا في العمل". وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أدوا الفرائض". وقيل: "استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه". وقيل: "استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله". (ينظر: تفسير الخازن). ويقول ابن كثير في تفسيره: " استقاموا: أي أخلصوا العمل لله، وعملوا بطاعة الله -تعالى- على ما شرع الله لهم". وعن الأسود بن هلال، عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: ما تقولون في قول الله -عز وجل-: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) [فصلت: 30]، وقوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) [الأنعام: 82]؟ فقالوا: الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا، وقوله: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: بخطيئة. فقال أبو بكر: "حملتموها على غير وجه المحمل، ثم استقاموا ولم يلتفتوا إلى إله غيره، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك". (الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي). والمتأمل في هذه الأقوال كلها يدرك أن الاستقامة: "كلمة جامعة تأخذ بمجامع الدين، الاستقامة قيام بين يدي الله بما أمر الله، والتزام بالصدق مع الله، ووفاء بالعهد مع الله، فالاستقامة: لله وبالله وعلى أمر الله" (من درس للشيخ صالح بن حميد).
والآن، فاحذر واحترس وخف وترقب! فإن هناك طرقًا كثيرة شبيهة بطريق الاستقامة، وما هي إلا طرق زيغ وميل وانحراف وضلالة، وقد حذرنا منها القرآن الكريم حين قال: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]، ينقل عبد الله بن مسعود إلينا التفسير العملي النبوي لهذه الآية فيقول: خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطًا، وخط عن يمين الخط وعن شماله خططًا ثم قال: "هذا صراط الله مستقيمًا، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 153] (النسائي في الكبرى، وصححه الألباني). ستصادف في رحلة حياتك ألف طريق شر، وآلاف الشبهات، وملايين الشهوات، وما لا يعد من المزالق، وأطنانًا من الانحرافات، ووابلًا من الترهات، وركامًا من الفتن... فإياك إياك أن تزيغ أو تروغ أو تركن؛ فإنك إن تركن أو تمل وكلك الله إلى نفسك، فتتشابه عليك الطرق وتتسارع إليك الزيوف ويضيع منك الفرقان الذي تفرق به بين الحق والباطل، ذاك الذي لا ينال إلا بالاستقامة والتقوى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) [الأنفال: 29]. ألا توافق على قول الرياضيين: "أن أقرب طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم"، فإنك إن حدت عن الصراط المستقيم ابتعدت عن الجنة واقتربت من النار، وإنك إن مِلْتَ قيد أنملة عن الطريق المستقيم، استزلك الشيطان وجرَّك أميالًا بعيدًا عن ذلك الطريق، فالتزم جانب الحذر.
وإن تكلمنا على الاستقامة وعرفنا معناها وشيئًا من فضائلها، فإننا نقول: والأهم من الاستقامة هو الثبات عليها حتى الموت؛ "وإنما الأعمال بالخواتيم" (متفق عليه)، وما الجدوى أن يعيش المرء على الاستقامة جانبًا من عمره ثم يموت حين يموت وقد فرط في استقامته وزاغ ومال عنها؟! يحدثنا أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار..." (مسلم). ويرويه ابن مسعود بصيغة أكثر توضيحًا وتفصيلًا فيقول: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق، فقال: "...فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها..." (متفق عليه)، و"المراد بالذراع: التمثيل للقرب من موته ودخوله عقبه، وأن تلك الدار ما بقي بينه وبين أن يصلها إلا كمن بقي بينه وبين موضع من الأرض ذراع، والمراد بهذا الحديث: أن هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنه غالب فيهم، ثم أنه من لطف الله -تعالى- وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة" (شرح النووي على صحيح مسلم). فأهم من الاستقامة: الثبات عليها حتى الممات، وقد جاء ما يؤيد ذلك عن أنس بن مالك -لكنه بسند ضعيف- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [الأحقاف: 13] قال: "قد قال الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام" (الترمذي وضعفه الألباني). أما سألت نفسك يومًا لِما كان: "من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم" (أبو داود وحسنه الألباني)؟! ولِما كان "من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا فليس منا" (أبو داود وصححه الألباني)؟! ولِما كان: "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة" (الترمذي وصححه الألباني)... أجيب: إن الأسباب كثيرة، لكنني أرى أن من أهمها أن هذا المسلم كبير السن؛ الذي قد شاب شعره في الاسلام، قد ثبت على الدين السنين الطويلة، لذا استحق هذه المكانة.
والآن لا نجد أهم من أن ندعو بما علمنا القرآن فنقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:6]، ندعو بها ونحن نضع نصب أعيننا قول الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلـم-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]... هذا، ولأن أمر الاستقامة أخطر وأهم من أن تلخصه هذه الكلمات أو أن تفي بحقه هذه العجالة، فقد عقدنا هذا الملف العلمي الشامل، ذا المحاور الخمس، الذي ينتظم جملة كبيرة من فكر المفكرين ومن علم العالِمين ومن كتابات الكُتَّاب الفاهمين ومن خطب الخطباء الواعين... جمعناها ها هنا لعلها تفي بخطورة الأمر فيوقظ الله بها قلبًا غافلًا، وينبت بها نبتة عزم في فؤاد منبَت، وينير بها الطريق لـمُجِدٍ كاد يحيد عن الطريق، ويعيد الله به الحماس إلى قلب فتر وكَلَّ وملَّ فانجرف وانحرف عن سواء السبيل... والله من وراء القصد عليم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم