الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي
السؤال
السلام عليكم،
أنا فتاة عمري 16 سنة، حافظة لكتاب الله وملتزمة - ولله الحمد - ولكنَّني أعيش في أسرةٍ غير ملتزمة مطلقًا؛ أبي يُشاهِد الأفلام والمسلسلات، ويدخِّن منذ سنوات، وأمي كذلك غير ملتزمة؛ فهي تخرج متبرِّجة واضعة الماكياج، وأخي لا يُصلِّي منذ 10 سنوات وهو عمره الآن 21 سنة، وهو غير ملتزم مطلقًا، لكن أخي الأكبر وعمره 22 سنة حافظ لكتاب الله، مع أنَّه على درجة قليلة من التديُّن.
المهم يا شيخ، أنا أشعر بأنَّني كنت ملتزمة أكثر في السنوات الماضية؛ أي: إنني كنت محافظة على الدُّعاء والتقرُّب إلى الله، وعلى الأذكار والاستغفار دائمًا، وتوجيه النصيحة إلى إخواني، لكنَّني الآن لستُ مثل ذاك الزمان؛ فأنا أحيانًا أجد في نفسي رغبةً في مشاهدة المسلسلات مع عائلتي.
أصدقك يا شيخ، أشعر بأنَّني بدأت في الانحِراف والله، وبدأت في مصاحبة بنات غير ملتزمات.
بالنسبة لحجابي أنا أغطِّي كامل جسدي ورأسي بالجلباب، لكنَّني أُظهِر وجهي ويدي، ولكن حجابي فضفاض وواسع وساتر، لكن المشكلة أن وجهي ظاهر، فما هو رأيك يا شيخ؟ أريد منك نصائح حتى أعود مثلما كنت من قبل، أنا أفكِّر في ارتِداء النقاب، لكن أمِّي غير موافقة.
الجواب
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسولِ الله، وعلى آله وصَحْبه ومَن والاه، أمَّا بعد:
فقد تأمَّلت رسالتك، فما رأيت فيها إلا ما يسرُّ الخاطر، ويَرُوق للناظر، ويبشِّر بالخير في غدٍ أفضل، ويبعث الأمل في النفس، - والحمد لله.
فما ذكرتِه من ارتدائك للحجاب وحفظ القرآن الكريم دليلٌ على حياة قلبِك، وما دمت كذلك فأبشري بالخير، واستمرِّي على المجاهدة في صلاح قلبك وصلاح مَن حولك بدعوتهم للخير؛ يقول الله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
وقال - سبحانه -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
أمَّا عدم رِضاك عن نفسك، فهو شأنُ عِباد الرحمن الذين يُدرِكون أنَّ الشر لا يجيء إلا منها؛ ومن ثَمَّ شُرع لنا الاستِعاذة بالله من شرِّ النفس وسيِّئات العمل، كما كان يدعو النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعوذ بك من شرِّ نفسي وشرِّ الشيطان وشركه))، مع سؤال الله - تعالى - العونَ على طاعته؛ فيحصل الخير ويدفع الشر، ولذلك كان دعاء فاتحة الكتاب أنفَع الدعاء وأعظمه وأحكمه: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6 - 7]، فإنَّه إذا هَداه هذا الصراط أَعانَه على طاعته وترْك معصيته، فلم يُصِبْه شرٌّ لا في الدنيا ولا في الآخرة، والذنوب من لوازم النفس، وهو محتاج إلى الهدى كلَّ لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب؛ ولهذا أمَر به في كلِّ صلاة لفرط الحاجة إليه، وإنما يعرف بعض قدره مَن اعتبر أحوال نفسه؛ قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى".
وتطلُّعك للثَّبات على دِين الله والاستِقامة على شرعه مطلَبُ كلِّ مسلِم صادِق يُرِيد اللهَ واليومَ الآخِر ويخشى عذابه، وممَّا يُعِينك على ذلك أمور سأختَصِرها لك اختصارًا.
- الدعاء بالهداية والاستِقامة والثَّبات عليهما؛ فالله - تعالى - بفضله ورحمته جعَل الدعاء من أعظم الأسباب الجالبة للخير، المانعة من الشر، فعليك باللجوء إلى الله والتضرُّع إليه أن يُثبِّتك على دينه، وأن يَزِيدك استقامةً وصلاحًا، وهذا مسلكُ المؤمنين، كما حكَى الله عنهم في القرآن الكريم؛ قال - سبحانه -: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، وقال - تعالى -: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ [البقرة: 250].
وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))؛ رواه الترمذي عن أنس - رضِي الله عنه.
- قراءة القرآن بتدبُّر؛ فالله - تعالى - يقول: ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32].
﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].
- الابتِعاد عن المعاصي والذنوب جملةً، ولا يعني هذا أن يصير المسلم معصومًا، ولكن كلَّما استخفَّكِ الشيطان وقهرَتْك نفسك، فافزَعِي إلى الله بالتوبة.
- المحافظة على واجبات الشريعة، لا سيَّما الصلاة في أوقاتها، وعدم التفريط في شيءٍ منها، مع الالتِزام بسائر أحكام الشرع؛ فالله - سبحانه - يقول: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66].
يقول العلامة السعدي في "تفسيره" (185):
"أخبر أنهم لو فعلوا ما يُوعَظون به؛ أي: ما وظف عليهم في كلِّ وقت بحسبه، فبذلوا هممهم، ووفَّروا نفوسهم للقِيام به وتكميله، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه ولم يكونوا بصدده، وهذا هو الذي ينبَغِي للعبد أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها، ثم يتدرَّج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ما قُدِّر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا.
ثم رتَّب ما يحصل لهم على فعل ما يُوعَظون به، وهو أربعة أمور:
(أحدها) الخيرية في قوله: ﴿ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66]؛ أي: لكانوا من الأخيار المتَّصِفين بأوصافهم من أفعال الخير التي أُمِروا بها؛ أي: وانتَفَى عنهم بذلك صفة الأشرار؛ لأن ثبوت الشيء يستلزم نفي ضدِّه.
(الثاني) حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإنَّ الله يثبِّت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان الذي هو القيام بما وُعِظوا به، فيثبِّتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفِتَن في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثباتٌ؛ يُوفَّقون لفعل الأوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرَهها العبد فيُوفَّق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر، فينزل عليه معونةٌ من الله للقِيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر.
وأيضًا فإنَّ العبد القائم بما أُمِرَ به لا يَزال يتمرَّن على الأوامر الشرعيَّة حتى يألَفَها ويَشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونةً له على الثبات على الطاعات.
(الثالث) قوله: ﴿ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 67]؛ أي: في العاجل والآجل الذي يكون للرُّوح والقلب والبدن، ومن النعيم المُقِيم ممَّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطَر على قلب بشر.
(الرابع) الهداية إلى صِراط مستقيم، وهذا عمومٌ بعد خصوص؛ لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمِّنة للعلم بالحق ومحبَّته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمَن هُدِي إلى صراط مستقيم فقد وُفِّق لكلِّ خير، واندَفَع عنه كلُّ شر وضير". اهـ.
- قراءة سيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقصص الأنبياء والصحابة والتابعين والصالحين، ففيها عِبَرٌ وحياةٌ للقلب؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].
- اختِيار صحبة صالحة من الفتيات المؤمنات، فهذا ممَّا يشدُّ أزرك في الالتِزام ويُعِينك على التمسُّك بالدين، وعلى قمع نوازع الشر في نفسك؛ ففي الصحيحين عن أبي موسى - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مثَل الجليس الصالح والجليس السوء كمَثَل صاحب المسك وكير الحدَّاد، لا يَعدَمك من صاحب المسك إمَّا تشتريه أو تجد ريحَه، وكير الحدَّاد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة)).
أمَّا مُصاحَبتك لفتياتٍ غير متديِّنات، فإِنْ كان بغرض دعوتهن للالتزام بالشرع، فحسنٌ، مع بذل الجهد في ذلك، ولكن إن كان لمجرَّد قضاء الأوقات فلا؛ لأنهنَّ إن لم تدعيهنَّ للهدى، دعَوْنكِ لترك ما أنتِ عليه، والطِّباع سرَّاقة، والصحبة مؤثِّرة في إصلاح الحال أو إفساده؛ لأنَّ الطِّباع مجبولةٌ على التشبُّه والاقتِداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يَدرِي، ومن ثَمَّ قال - سبحانه -: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67]، وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم مَن يُخالِل))؛ رواه أبو داود.
والله أسأل أن يثبتك على الحق، وأن يعذك من شر نفسك ومن شر الشيطان وشَركه،، اللهم آمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم