د. بن يحيى الطاهر ناعوس
كل مسلم ومسلمة يرغب ويُحبُّ أن يعيش حياة مستقيمة بعيدة عن المُنكَرات والمنغِّصات، بل يرغب في الثبات على طريق الهداية؛ لأنَّ السعادة الحقَّة في طاعة الله تعالى، ولو بحثْنا في سِيَر الأولين لوجدنا أن شُغلهم الشاغل هو الاستقامة والدَّيمومة على طريق الهداية.
ومن هنا سنُحاول أن نبيِّن ما هي أهمُّ قوانين الاستقامة؛ انطلاقًا من الكتاب والسنَّة التي إن طبقناها والتزمنا بها سِرنا في طريق الاستقامة بكل طمأنينة.
أولاً - التوبة:
القانون الأساس في الاستقامة هو التوبة النصوح، التوبة المتكرِّرة في كل لحظة وحين، ومن أعظم الأشياء التي ينبغي التوبة منها، التي تحطِّم الفرد والأسرة والمجتمع برمته، هي السبع الموبقات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال: ((الشِّرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحْف، وقذف المُحصَنات المؤمنات الغافلات))؛ متفق عليه.
يُنذِر ويحذِّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته في هذا الحديث من الوقوع في الذنوب المهلكة المدمّرة، الكبائر العظيمة التي تورد صاحبها المهالك؛ حيث عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم سبعًا من هذه الذنوب والكبائر وهي ليست للحصر، بل قد وردت نصوص أخرى بذكر بعض الكبائر والذنوب؛ كعقوق الوالدين، والظلم، وشهادة الزور، وغيرها كثير.
وفي رواية النسائي وغيره: ((ما من عبدٍ يُصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويُخرج الزكاة، ويَجتنِب الكبائر السبع إلا فُتحت له أبواب الجنَّة فقيل له: ادخل بسلام)).
ثانيًا - صفاء السريرة:
وهذا قانون عجيب عظيم الفائدة، بل مدار الفوز والنجاح مُرتكِز عليه، لهذا قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور"؛ أي: إن فوزهم وتفوقهم وما وصلوا إليه من الرفعة في الذكر وخلود الثناء وعلوِّ الكعب في العلم والمجد والفضل إلا حين تميزوا عن أقرانهم بهذه الخلال الحميدة.
ذلك أنَّ كثيرًا من الناس يَقدر على الصلاة ويُجاهد نفسه في سبيل المحافظة عليها، كذلك شأن الصيام وغيره من أركان الإسلام، لكن الصبر على أخلاق الناس وسلوكياتهم وأذاهم أمر عسير وشاقٌّ، ولو قدر لأحدٍ الصبر لزمن معين أو فترة مَحدودة لكان هيِّنًا، لكن الشأن أن تَصبر على أذاهم كلَّ حياتك، أن تكون سَمحًا هيِّنًا ليِّنًا كل عمرك، أن تكون خافض الجناح متواضعًا لَبِقًا، هنا الامتحان! أن يكون صدرك سالمًا من كل حسد أو حقد أو طمع، أن تكون سريرتك كعلانيَتِكَ سواء!
وجاء في سنن أبي داود ما يؤكد ذلك؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المؤمن ليُدرِك بحسن خلُقِه درجة الصائم القائم))، ومع هذا فكل شيء مع الوقت والتدريب والتدرج يَسهُل، وإذا تذكَّر العبد أنه إنما يصنع هذا الأمر تقرُّبًا إلى الله وابتغاء مرضاته هان المطلوب وسَهُل المأمول، إنها دعوة إلى صفاء القلب ونقاء السريرة وحسْنِ الخلُق؛ علَّنا نبلغ ما بلغوا!
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: كنا يومًا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يَطلع عليكم الآن من هذا الفجِّ رجل من أهل الجنة))، قال: فطلع رجل من الأنصار تَنطف لحيته من وضوء، قد علَّق نعليه في يده الشمال، فسلم، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مقالته فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم: اتَّبعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: إني لاحَيت أبى، فأقسمتُ ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تَمضي الثلاث فعلْتُ! قال: نعم، قال أنس رضي الله عنه: فكان عبد الله يُحدِّث أنه بات عنده ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعارَّ انقلب على فراشه ذكر الله - عز وجل - وكبَّر حتى يقوم إلى صلاة الفجر، فقال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما فرغْنا من الثلاث، وكدت أن أحقر عمله قلت: يا عبدالله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات: ((يطلع عليكم رجل من أهل الجنة))، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك، فأقتدي بذلك، فلم أرَك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "ما هو إلا ما رأيتَ، غير أنني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشًّا ولا حسدًا على خير أعطاه الله إياه"، قال عبدالله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نُطيق.
ثالثًا - الصيام:
الصوم من القوانين المهذِّبة للنفس البشرية؛ فهو الذي يُمسِك بلجام الشهوات الجامِحة؛ بل يُقيِّدها تقييدًا عظيمًا ولهذا قيل: الصيام مدرسة للنفوس، وكلما تطوَّع المسلم بالصيام نال مكرمات عظيمة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمَع به، وبصره الذي يُبصِر به، ويدَه التي يَبطِش بها، ورجله التي يَمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه))؛ رواه البخاري.
وإن المدقِّق في معاني هذا الحديث العظيم، يستشفُّ أن مَن سعى في نوافل العبادات تقربًا إلى الله الرحيم، أحبه الله، وقرّبه منه، ووفقه في سمعه وبصره، وكان الله معه، يُجيب دعاءه ويُعيذه مما يَخاف ويحذر، وكفى بالله حسيبًا، والصيام من أحب الأعمال إلى الله؛ قال تعالى في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدع شهوتَه وطعامه من أجلي))؛ رواه مسلم.
فمن صام يومًا تطوعًا حاز الدرجات العلى، وأحبه الرحمن، والاستمرار على ذلك جالب للأجر الجزيل والتوفيق العظيم.
رابعًا - الصدقة:
الدراسات النفسية الحديثة أثبتَت أن مَن سعى في تخفيف آلام غيره ومساعدتهم على تخطي الأزمات، امتلك بمرور الوقت نفسًا مُقاوِمة للقلق والحزن، بل تكوَّنت لديه شخصية قوية تجتمع فيها جميع صفات الخير والقوة الروحية العظيمة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟))، قال أبوبكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمَن تبعَ منكم اليوم جنازةً؟))، قال أبوبكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمِن أطعم منكم اليوم مِسكينًا؟))، قال أبوبكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟))، قال أبوبكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمعْن في امرئ إلا دخل الجنة))؛ رواه مسلم، ومن الأحاديث الدالة على فضل الصدقة قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة))؛ في الصحيحين.
والمتأمِّل للنصوص التي جاءت آمرةً بالصدقة مُرغِّبةً فيها يدرك ما للصدقة من الفضل الذي قد لا يصل إلى مثله غيرها من الأعمال، حتى قال عمر رضي الله عنه: "ذكر لي أن الأعمال تُباهي، فتقول الصدقة: أنا أفضلكم"؛ صحيح الترغيب، "إذا أردت تَليين قلبك فأطعِم المسكين، وامسَح على رأس اليتيم"؛ رواه أحمد.
خامسًا - تعهُّد القرآن حفظًا ومدارَسةً وتلاوةً:
ففي القرآن كل الشفاء من جميع الأسقام ظاهرةً وباطنةً، وأعظم بلاء يُصاب به المرء هو نسيان القرآن وهجرانه؛ فعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بئسما لأحدهم أن يقول: نسيتُ آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي، استذكِروا القرآن، فلهو أشد تفصيًا من صدور الرجال من النَّعَم بعقله))؛ البخاري.
سادسًا - عطِّر فمك:
ذِكر الله من أعظم الأعمال المُثبتة للعبد، فبذكر الله يتجدَّد الإيمان وتجدَّد الصِّلة بالله تعالى، أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((استكثِروا من الباقيات الصالِحات)) قيل: وما هنَّ يا رسول الله؟ قال: ((التكبير والتسبيح والتهليل والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).
سابعًا - اقرأ كتابًا:
للقراءة فوائد جمَّة؛ فهي: مُغذية للعقل ومنمية للفهم، ومُقوية للشخصية، وذكَر أهل العلم فوائد أخرى نُجمِلها فيما يلي:
- نور للنفوس.
- طرد الوساوس والهم والحزن.
- اجتِناب الخوض في الباطل.
- فتق اللسان وتدريبه على الكلام.
- تنمية العقل وتجويد الذهن.
- غزارة العلم وكثرة المحفوظ والمفهوم.
- الاستفادة من تجارب الناس والحكماء.
- معرفة الخير والشر.
- الرسوخ في فهم الكلمة، وصياغة المادة، ومقصود العبارة، ومدلول الجملة، ومعرفة أسرار الحكمة.
- راحة للذهن من التشتُّت وللقلب من التشرذُم، وللوقت من الضياع.
بهذا فاز مَن اتَّخذ العلم أنيسًا والكتاب جليسًا، ولتسع لتغذية عقلك بالقراءة فالأجساد لا تحيا إلا بالغذاء، والأرواح لا تسمو إلا بالثقافة، ولا يُحلِّق العقل إلا بما يَصقله ويُنيره، فنهاية طلب العلم "العقل".
وصدق المتنبي حيث قال:
أعزُّ مكان في الدُّنى سرجُ سابحٍ
وخير جَليس في الزمان كِتاب
هذه هي قوانين الاستقامة فاحرِص عليها، ولا تنسَني مِن صالح دعائك
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم