اقتباس
فكفنا من رمضان غنيمة: صلاح قلوبنا وتذوقها لذة الإيمان، وهل بعد صلاح القلب فوز وغنيمة! "ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".. فأفلح من تعاهد قلبه بعد رمضان، وطهَّره وزكَّاه، وبالصالحات رواه وسقاه، وعن الذنوب والمعاصي نحَّاه...
حزاني على فراقك يا رمضان، لقد رحلت وما قضينا منك نهمتنا، لقد رحلت بعد أن عودتنا على راحة القلب وهدوء النفس، لقد رحلت بعد أن أعنتنا أن نتخفف من تعلقنا بالدنيا ومتاعها وحرصنا على جمع ما لا نحتاج...
وكيف لا نحزن على فراق شهر تعتق فيه الرقاب من النار؟! كيف لا نحزن على فراق شهر تغلق فيه أبواب الجحيم وتفتح فيه أبواب الجنان؟! كيف لا نحزن على فراق شهر تسلسل وتغل وتسجن فيه مردة الجن والشياطين؟! كيف لا نحزن على فراق شهر فيه ليلة هي خير من ثلاثة وثمانين عامًا من العبادة الخالصة؟!...
وإن أكبر حزننا كان على سهولة الطاعة فيك؛ فلقد كانت الطاعات فيك قريبة ميسورة، وأساب ذلك كثيرة:
فأولها: أنه لا شيطان يوسوس ويحث على المعاصي، اللهم إلا القرين الذي يلازم الإنسان، ولقد اختلفت ألفاظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كيفية تكبيل تلك الشياطين، وكل لفظ يؤدي ما لا يؤديه الآخر؛ مبالغة في تقييدها وحجزها عن أذي المسلم في رمضان، ففي الصحيحين: "وسلسلت الشياطين"، يقول مصطفى البغا: أي: "شدت بالسلاسل ومنعت من الوصول إلى بغيتها من إفساد المسلمين بالقدر الذي كانت تفعله في غير رمضان"... وعند مسلم: "وصفدت الشياطين"، يقول محمد فؤاد عبد الباقي: "الصفد هو الغل أي أوثقت بالأغلال"...
وثانيها: أننا نجد في رمضان على الخير أعوانًا: فالجميع إلى الطاعة مقبل، وعن المعاصي مقلع، والمنادي ينادي: "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وثالثها: أن خلو البطن من الطعام والشراب يجعل الجسد خفيفًا نشيطًا، فلا يعيق الروح المتعطشة إلى الترقي مع الله -تعالى-: فـ"ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
***
لكنها سنة الله -تعالى- في كونه؛ أنه: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)[القصص: 88]، فكان لابد لرمضان أن ينتهي وينصرم ويرتحل وينقطع ويمضي، فرمضان إذن سوق بضائعه الأعمال الصالحات، تاجر فيه المسلمون ثم انفض وقد ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.
ولقد وضع ابن رجب الحنبلي علامة نميز بها الرابح من الخاسر والمقبول من المخذول، فقال: "علامة قبول الطاعة: أن توصل بطاعة بعدها، وعلامة ردها: أن توصل بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد الحسنة، وأقبح السيئة بعد الحسنة، ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها، النكسة أصعب من المرض الأول، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغني قوم بالذنوب افتقر، سلوا الله الثبات إلى الممات وتعوذوا من الحور بعد الكور"(لطائف المعارف، لابن رجب الحنبلي).
فلنحذر إذن من الفتور والانقطاع عن الطاعات بعد رمضان، فلقد أمر الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بمواصلة الطاعة قائلًا -عز من قائل-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99]، "يعني: الموت الموقن به الذي لا يشك فيه أحد، والمعنى: واعبد ربك في جميع أوقاتك، ومدة حياتك حتى يأتيك الموت وأنت في عبادة ربك"(تفسير الخازن).
فعلامة قبول الصيام: أن تدوم على صيام التطوع طوال العام، وأولها صيام ست شوال، لحديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر"(رواه مسلم)، ثم صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ثم صيام الاثنين والخميس، وغيرها من نوافل الصيام.
وعلامة قبول التراويح والقيام أن يدوم عليها كل ليلة، كما كان يفعل رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يدع قيام الليل حضرًا ولا سفرًا، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة"(زاد المعاد، لابن القيم)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أوصاني النبي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث، لست بتاركهن في حضر ولا سفر: نوم على وتر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى"(رواه أحمد، وأصله في الصحيحين).
ولقد حذَّر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عبدَ الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قائلًا: "يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل، فترك قيام الليل"(متفق عليه)... وعلى ذلك فقص كل الطاعات والقربات والأعمال الصالحات.
***
وكفانا من رمضان بركة وخيرًا أننا قد أحسسنا بلذة الطاعة والعبودية لله -تعالى- فيه، وتذوقنا حلاوة المناجاة وصف الأقدام لله، وترك الشهوات لله... وبمثل هذا تنصلح القلوب؛ يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة"(العبودية، لابن تيمية).
فكفنا من رمضان غنيمة: صلاح قلوبنا وتذوقها لذة الإيمان، وهل بعد صلاح القلب فوز وغنيمة! "ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"(متفق عليه).
فأفلح من تعاهد قلبه بعد رمضان، وطهَّره وزكَّاه، وبالصالحات رواه وسقاه، وعن الذنوب والمعاصي نحَّاه... فعلى قلب -أيها المسلم- بعد رمضان فلتحافظ، وعلى طاعاتك فلتداوم، فإن فعلت فقد أفلحت في الدنيا والآخرة.
وقد تعددت انطباعات خطبائنا وتنوعت تجاه مرور رمضان وارتحاله، لكنها اتفقت جميعًا على شيء واحد وهو: وجوب لزوم طاعة الله -تعالى- بعد رمضان، وهذا ما سوف تراه جليًا واضحًا من خلال خطبهم التالية:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم